شعار قسم مدونات

الإعجاز العلمي في القرآن.. بين الحقيقة والإفتراء

blogs قرآن

مع انتشار موجة الإلحاد الجديد، انكبّ عدد من المخلصين الذين تصدّوا لهذه الموجة على استحضار أمثلة من النصوص القرآنيّة التي تتوافق مع العلم الحديث، ظنّا منهم أنّ مجرّد استحضار نص قرآني متوافق مع العلم الحديث سيُجبه الطرف الآخر بحجةٍ لا مِراء فيها ولا مماحلة، وقبل أن أتحدث عن الإعجاز العلمي في القرآن، فإنني أريد الحديث عن عقلية الملحد ومنهجيته الفكرية.

في الحقيقة، إنّ التركيبة العقليّة للملحد أبعد ما تكون عن الإنصاف، وهي في حقيقتها لا تستخدم المنهج السويّ في التفكير، فضلاً عن المراء والجدال في البديهيات والمسلّمات التي لا تحتاج لنقاشٍ من الأصل. إنّ التركيبة العقلية للملحد تركيبة جامدة قائمة على رفضٍ مطلق معاند مكابر لكلّ ما هو ميتافيزيقي وما ورائي، وإنّ كانت كلّ هذه الآيات والخوارق الكونيّة التي تفرض على العقل البشري وجود خالق مدبّر لهذا الكون ليس لها في منهجيته الفكرية قيمة ولا وزن.. إن كان هكذا، فهل سيخضع أمام نصّ قرآني متوافق مع العلم الحديث؟ 

الفلسفة المادية بأسرها مُفكَكة من الداخل، ومُفَكِكة للإنسان وإنسانيّته.. ولا يمكن لمعتنقها أن يَركن إلى زاوية ضيّقة فيها دون رؤيتها الفلسفية المتكاملة للكون والإنسان إلّا إذا كان جاهلًا بحيثياتها، وإذا كان الإنسان تبعًا للفلسفة الماديّة حيوان كامل متطور حدوده الطبيعة ويخضع لقوانين حتمية حادة الصرامة، فإنّ القيمة والمعنى والغاية تبعًا لهذه الرؤية تصبح عبثًا لا قيمة له.

إن إخضاع الألفاظ القرآنيّة للفروض والنظريات العلميّة الغير نهائية لا يستقيم عقلًا ولا منطقًا، فما يقرره القرآن نهائي ومطلق، وما تقرره هذه الفروض غير نهائي وقابل للأخذ والرد

وبإمكاننا أنّ نرى هذه العبثية جليّة في كتابات ريتشارد دوكنز – عرّاب الملحدين في العالم- إذ يقول: "الكون في حقيقته بلا تصميم، بلا غاية، بلا شر ولا خير، لا شيء سوى قسوة عمياء لا مبالية"، وبإمكاننا أيضًا أنّ نرى فشل رؤيتهم الفلسفية في وضع أيّ قيمة أخلاقية حيث يقول: "اعتقادك بأن الاغتصاب خطأ أمر اعتباطي تمامًا".

وبإمكاننا أيضًا أنّ نقف مشدوهين حينما يقبل الملحد نظريًا ببقرة تقفز فوق القمر، تبعًا لما قاله ريتشارد دوكنز في كتابه "صانع الساعات الأعمى"، ثمّ يرفض ويسخر من حادثة الإسراء والمعراج على سبيل المثال. إنّ المنهجيّة الفكرية للملحد والتي تقبل هذه الرؤية الخانقة المأزومة العاجزة، أبعد ما تكون عن قبول نصٍّ قرآني يتوافق مع العلم الحديث!

نعود الآن إلى الإعجاز العلمي في القرآن الكريم.. من خصائص القرآن الكريم أنه كتاب معجز، وهو الآية الكبرى التي أيّد الله بها نبيه الكريم، ووظيفة القرآن أن يضع تصورًا للوجود وخالق الوجود، ومن ثمّ فإنّه يضع للإنسان – تبعًا لذلك التصور- منهجًا متكاملاً ليسير عليه، وكذلك فإن القرآن جاء ليعالج الفطرة البشرية ويصلحها ويقوّمها، فمجال القرآن إذًا النفس الإنسانيّة والحياة الإنسانيّة، وهو في حقيقته ليس كتاب طب أو فلك أو كيمياء، بل إنّ الموضوع الذي يتصدى له القرآن أعظم بكثير من هذه العلوم جميعًا.

ومع ذلك فإنّه لا يخفى على أحدٍ من الدارسين المتخصصين أنّ القرآن قد تضمن إشارات علمية تتوافق مع العلم الحديث، وهو ما يعتبر من الإعجاز القرآني فيزيد المؤمنين إيمانًا، ويقدح في قلب المهيئين للتلقي من غير المؤمنين شرارة الإيمان، ومن الناحية الأخرى فإنّ الكارثة التي تواجه الإعجاز العلمي هي ما يقوم به بعض الكُتّاب المتحمسين من التكلّف والتحامل لاستخراج معانٍ من الآيات القرآنية تتوافق مع العلم الحديث، وهي في حقيقتها ليست إلّا معانٍ بهلوانيّة لا يجوز حمل كلام الله عزّ وجلّ عليها.

لو كان إيماننا نابع من آية خارقة لا مراء فيها، فإن الإيمان في هذه الحالة سيكون إيمانًا اضطراريًا كإيماننا بوجود الشمس والقمر، وهو ما ينافي حقيقة الاختبار والتكليف
لو كان إيماننا نابع من آية خارقة لا مراء فيها، فإن الإيمان في هذه الحالة سيكون إيمانًا اضطراريًا كإيماننا بوجود الشمس والقمر، وهو ما ينافي حقيقة الاختبار والتكليف
 

وكذلك فإن إخضاع الألفاظ القرآنيّة للفروض والنظريات العلميّة الغير نهائية لا يستقيم عقلًا ولا منطقًا، فما يقرره القرآن نهائي ومطلق، وما تقرره هذه الفروض غير نهائي وقابل للأخذ والرد، ولا يليق بجلال القرآن أن يلهث أصحابه – من خلاله – وراء الفروض والنظريات المحكومة بالتجربة والتي قد تتغير في أي لحظه، الأمر الذي يعرّض كلام الله المطلق للقيل والقال. إنّ مسألة الإعجاز مسألة دقيقة للغاية، وهي تحتاج ممن يتفرغ لها التعمق والتمكن في تخصصه العلمي فضلًا عن الإلمام الواسع بمعاني القرآن وأسراره البلاغية.

في حقيقة الأمر، إن القرآن غني عن محاولة إثبات مصداقيّته بالإعجاز العلمي، وهو لا يحتاج منّا التحامل والتكلف وحمل النصوص القرآنيّة على ما لا تحمل، إذّ أنّ من طبيعة القرآن أنّه "لَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا"، وكذلك فإنّ العلم وحده لا يكفي للإيمان، إنّما يحتاج الإيمان للفطرة السليمة النقيّة المهيئة للتلقي، وقد نزلت في الأمم السابقة معجزات وخوارق ظاهرة للعيان، فما زادهم ذلك الا تكذيبًا وكفرًا!

وأصل الإيمان الديني إيمان غيبي "الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ"، وهو قائم على الاختيار الحرّ والاقتناع العقلي الخالص، ومن يفهم حقيقة الاختبار والتكليف لا تخفى عليه هذه المعاني، ولو كان إيماننا نابع من آية خارقة لا مراء فيها، فإن الإيمان في هذه الحالة سيكون إيمانًا اضطراريًا كإيماننا بوجود الشمس والقمر، وهو ما ينافي حقيقة الاختبار والتكليف "إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.