شعار قسم مدونات

لا عليك سرطان فقط! ستشفى قريبا

blogs سرطان

بخطىً متثاقلةٍ تجرّها نحوَهُ راجيةً ألّا توصلَها إليه، ذلِك الخمسيني الجالس عند نهاية الممر، ينتظر بوجلٍ ما ستقوله، تنتصب أمامه، هي لا تريد أن تؤكّد له مخاوفه، كم ترغب بالكذب عليه بقدر ما ترغب باطلاعه بالحقيقة، تريد أن تنتقي الكلمات لكنها فاشلة في مثل هاته المواقف! يربكها انتظاره فتخرُج منها بتقطع "سَ…سرطانٌ يا سيّدي، أنا آسفة" ما أثقلها من كلماتٍ وما أشدّ وقعَها، خبيثةٌ كالورم الذي يحمله، لئيمةٌ كصديقٍ خان العهد، تقولها هكذا دون مقدمات، لم تٔسبِقها بمواعظ عن الصبر والبلاء، وبما تعلمته من أساليب كلام، هي حتماً فاشلة، أمّا بالنّسبة إليه فالنتيجة واحدة، هو يحمل بين جَنَباتِه مرضاً عضالاً، سينهش جسده بلا رحمة، هو يحمل في رئتيه لغماً لا يعرف متى سينفجر، هو لم يعد صالحاً للحياة بعد.

  
التقطت أذناه كلمة (سرطان) ثمّ ما عاد يسمع شيئاً، يمرّ عليه شريط حياته سريعاً، تتسابق الذّكريات بحلوها ومرّها، ميلاد ابنه أحمد، أول يوم مدرسةٍ لابنته إسراء، زواجه، وفاة والده، حتى رائحة الخبز الذي كانت تعده جدته.. يتفحص وجهها كالغريق، وتشيح هي بنظرها عنه، تحسّ أن ألمه ينفذ إليها كلما نظرت إليه، وأنه سيتذكّر وجهها المشؤوم ذاك ما تبقى له من حياة، لحظاتٌ هي حتما الأصعب على كليهما.

أما هو: فليتَهٔ تجاهل تلك الآلام التي عشّشت في صدره وحرمته لذّة النوم لأسابيع، ليته لم يستمع لزوجته وهي ترجوه ليلَ نهار للذهاب إلى الطبيب فقد أخافتها علامات الإرهاق البادية عليه، ليته قام بكسر مرآة مخرج بيته فهي تخبره كلّما نظر إليها بأنه صار هزيلاً وبأنها لم تعد تعرفه! ليته صدّق جاره "الحاج إبراهيم" عندما أخبره بأن سبب سعاله الذي لم يشفى سحر! وأن فلان قادرٌ على فكّه.

المرضَى فيَقفُون على ناصية الوجع يراقبون خريف أعمارهم الذي حلّ مستعجلاً، تتساقط خصلات الشّعرِ وأوراق العمرِ، تغادرهم البهجة ويذبل كل شيء إلّا ذلك الوحش الكامن في أجسادهم

هو سرطانٌ إذن! هو الذي يكره المشافي سيضطرّ للمكوثِ فيها طويلاً، فهل سيتحمل عبوس الممرضات ولامبالاة الأطباء، حتى عاملات التنظيف هناك مخيفات، فقد روت له أختُه ذاتَ فضفضة كيف أجبرتها إحداهنّ على جمعِ ما استفرغته أرضاً لأنها لم تقو على الوصول إلى المغسلة، لقد كانت متعبةً من الكيماوِي لكنها جمعته! قال لها حينها "لا عليك إن المريض في أوطاننا بطل، فهو يواجه المرض وقسوة هؤلاء الحمقى"، فهل سيواجه هو أو سيستسلم قبل بدأ المعركة حتى؟

أما هي: فليتها استطاعت إخبارهُ بأنّ الورم حميد، أو على الأقل بأنّه موضعي ومن المحتمل إخراجه من جسده بالجراحة، لكنّه خبيثٌ ومتفشٍّ، ليتها استطاعت أن تكذب عليه، فما يحتاجه المريض ليس الحقيقة بل ما يبعث فيه الأملَ بالشفاء وبأنّه سيعيش، هي إذاً بين سِندان القانون ومطرقة المشاعر، عليها أن تقول الحقيقة كاملةً، هذا ما أصرّ عليه أستاذها الذي أراد منها أن توفّر عليه عناء إخبار مريضه.

دقائقٌ من الصّمتِ مرّت كأنها الدهر، ينظر إلى يديها المرتجفتين وهما تحملان ذلك التقرير الملعون، يتجرّع الخبر بمرارة، عضلات وجهِه تأبى أن تنقبض لتسمح لشفتيه بالكلام، أما اللّسان فمدهوشٌ كصاحبه، فهو مقبلٌ على أعتى معارك البلاغةِ والإيمان، أيسخط على قدر الله، هل سيتواطأ عليه الشيطان وهول ما سمعه، أم سينجحُ في اختبار البلاء ذاك، يقطع كل ذلك الصمت قائلاً "الحمد لله" محاولاً كتم عَبَراته، أمّا هي فتقف أمام كلماتِه محاولةً تنظيم دقّات قلبها لكنها تزدادُ تسارعاً، لَكَأنَّ هذا الرجل جاء ليعيد إلى ذاكرتها ما تخشاه وبشدة، هي التي عوّدتها ذاكرتُها بأن تعاقِب كل من وما يؤذيها بالنسيان، لكنّها عاجزة عن نسيان قصص أولئك الذين ودّعتهم بسبب هذا المرض اللّعين، ولكَأنَّ هذا المرض عاد ليصفي حساباته معها، فهو يصر على أن تكون هي من يعلن عقد قرانه على مرضاه، والشاهد على معاناتهم منه، فأنّى لها أن تنسى!

صديقة أمها الحميمة، يفتحون بطنها يجدون الورمَ منتشراً، فيعيدون إغلاقه وإرسالها إليهم وإخبارهم بأنها لن تعيش، ما عليهم سوى توديعها فقط، أبهذا القدرِ يخافون السرطان ويقفون عاجزين أمامه!؟ كم لعنت أمّٔها الطب والأطباء وقتها وكطالبةِ طبٍ لم يسعها سوى التأمين على دعاء أمّها المنهارة والذهاب معها لوداعِ الصّديقة وهي ترقد في العناية المركزة، ما أقسى ذلك الوداع، وداع من ستفقده للأبد، والأقسى من ذلك حين تسألها الصديقةٔ عن احتمال الشّفاء في حال تلقّيها العلاج اللازم، بكت كثيراً حينها أيّ لازمٍ وأي علاج، أتجيبها بأنه لا علاج لها، وأنها ستغادرهم بعد أيام، بكت فحسب ولم تجب فهي فاشلة في مثل هاته المواقف.

 

تكره تلك الآجال التي يحددها الأطباء لمرضاهم، لكن أباها أخبرها بأنّ هؤلاء المرضى محظوظون، فهم لديهم الوقت لتصحيح أخطائهم والاعتذار! ربّما بالنسبة إليهم! لكنها لم تعايش ألماً كوداع من تعرف رحيله للأبد، جدّها أيضا غادرهم باكراً بسبب ما سمي سرطاناً لذا هي تخافه بقدر ما تكرهه، مجرد تذَكُّرِ ما فعله بأحبائها يُمَزّقُ ذاكرتها ويجعلها تتألم.

هي ليست الوحيدة، فكم ارتبط هذا المرض بأكثر المشاهد حزناً في حياة الكثيرين، كيف ازدحمت البيوت بضحايا السرطان، كيف استحالت حياتهم مسرحاً للخوفِ والألمِ والدموع، كيف يهرع الأقربون إليهم، يلتفّٔون حولهم محاولينَ بكلّ ما آتاهم الله من حب أن يجمعوا شتاتهم، أمّا المرضَى فيَقفُون على ناصية الوجع يراقبون خريف أعمارهم الذي حلّ مستعجلاً، تتساقط خصلات الشّعرِ وأوراق العمرِ، تغادرهم البهجة ويذبل كل شيء إلّا ذلك الوحش الكامن في أجسادهم، فهو يزداد تأجّجاً واشتعالا، يُطوّحٔ بهم فيقاومون ويحاولون الوقوفَ بصلابةٍ من جديد.

 

أيّها السرطان ما بالك تأتي فجأةً تحلّ بأجسادٍ ما كانت تريدُ استقبالك، تهوي كالصّاعقة على ضحاياك، كعبوةٍ ناسفةٍ انفجرت في عرس، كهزّةٍ أرضيّةٍ حدث أن دمّرت مدينةً جميلة
أيّها السرطان ما بالك تأتي فجأةً تحلّ بأجسادٍ ما كانت تريدُ استقبالك، تهوي كالصّاعقة على ضحاياك، كعبوةٍ ناسفةٍ انفجرت في عرس، كهزّةٍ أرضيّةٍ حدث أن دمّرت مدينةً جميلة
 

لكن كثيراً ما ينهارون في لحظة ضعف، ويذرفون دموعهم بسخاءٍ خشية الموت، تحترق أوردتهم من الكيماوي، وتُسْلَبُ قواهم شيئاً فشيئاً، ينازِلون الألم على أشُدِّه، ينضحون مرارةً، يصرخون ومن الله يرجون أن يُمِدَّهم بالمدد، بالصبر وقوة التّحمل، فالبشري لا يقوى على مثل هذا الألم، أن تنمو بداخله خلايا مجنونة تتكاثر بسرعة، تزحف في العروق وتنقلب على وظائفه الحيوية معلنةً ولاءها للموت، كمحتلٍ تعيث فساداً في جسده وتتواطأ معها مناعته، والهدف أن يحجزوا لجسده مكاناً في المقبرة!

يكمل بعضهم رحلة العلاج تلك، وبفضل من الله يشفون، ينتزعون الحياة من بين أظافر ذلك الوحش ويتغلبون عليه كالأبطال الخارقين، ويستسلم البعض الآخر، ليس جبناً لكن لهول ما حلّ بأجسادهم فقد آن لهم أن يرتاحوا من مسلسل العذاب ذاك بالموت، آن لهم أن يغادرونا تاركين وراءهم ألماً عظيماً، فراغاً كبيراً وكلّ ما تيسّر من وجع.

وأنت أيّها السرطان ما بالك تأتي فجأةً تحلّ بأجسادٍ ما كانت تريدُ استقبالك، تهوي كالصّاعقة على ضحاياك، كعبوةٍ ناسفةٍ انفجرت في عرس، كهزّةٍ أرضيّةٍ حدث أن دمّرت مدينةً جميلة، أنت لم تخلّف وراءك موتى فقط بل أكداساً من الأوجاع وأنقاضاً من الذكريات ودموعاً بملوحة البحار كلّها، والأكثر من ذلك رهاباً منك، فقد صرنا لا نجرؤ على التّفوه باسمك، وصار التّعبير عنك "بذاك المرض" إذا نطقها أحدهم ذعر الآخر وأجاب "عافانا الله" بهذا القدر نخشاك، ونخشى أن تصيبَنا ومن نحب.

فكيف لك أن تعبث بماضينا وحاضرنا، وتحيلنا لكائناتٍ باذخة الألم، لكن أنلومك أم نلوم تخلّفنا وعجزنا عن إيجاد ترياقٍ لمآسينا، متى سنشخصك قائلين لمرضانا "لا عليك سرطان فقط، خذ دواءك بانتظامٍ وستشفى!" سنختزل الكثير من الكرباتِ والعذاباتِ حينها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.