شعار قسم مدونات

عاش كثيرا.. ومات في العشرين!

blogs الموت

مات أحمد!.. شاب في العشرين، بخطو أولى خطواته في كلية الألسن، غير أن السرطان اللعين لم يمهله. لم أقابل الفتى إلا مرات تعد على أصابع اليد الواحدة، كل مرة لدقائق معدودة، غير أنه قد ترك في نفسي أثرا بليغا لا أظنه ينمحي أو يطول عليه الأمد. كان شابا متقد الذكاء، مثقفا لبقا مهذبا طموحا، تلحظ في عينيه وثوبا وتأهبا غير عاديين، رغم ذلك الإنهاك البادي فيهما، والحزن والرهق اللذان حفرا آثارهما على ملامحه من أثر رحلة الصراع الطويلة ضد هذا المرض، والعلاج الإشعاعي والكيماوي الذي ترك نحولا شديدا على جسده، رغم تلك المعاناة الهائلة، ورحلة العذابات الطويلة، رغم الأسى والعرق والدموع، أحسست كأنه يملك العالم بأكمله في راحتيه!

أحمد صديق لأخي الأصغر وزميل له في الثانوية العامة، جاءني باحثا عن عمل رغم أنه لم يلتحق بالجامعة بعد! كان شديد الحماس، لا يطيق انتظارا لخوض غمار الحياة، متعجلا كما لو كان مطاردا ولا يملك وقتا لالتقاط أنفاسه، سعيدا يملأه الأمل، إذ كان يعتقد أنه قد هزم مرضه، وأنه قريب جدا من إنهاء جلسات العلاج، حكى لي كيف كان يحلم بالالتحاق بكلية الاقتصاد، ورغم أن مجموعه في الثانوية العامة كان يؤهله لذلك، غير أنه ما استطاع أن يفارق أمه، ورفضت أمه ان تفارقه، إذ كان ذلك يتطلب انتقاله الى القاهرة، وخشت أمه أن تعاجله نوبات المرض في غيبتها!

انشغلت بشأني، إذ ألم بي مصابان في أهلي، ووعكتان صحيتان أجريت لي على أثرهما عمليتان جراحيتان، وانصرف هو إلى مرضه الذي عاوده بوجه أشد بشاعة وفتكا، ولم أعرف عن ذلك شيء، حتى كان صباح يوم كالح عبوس، كنت أتصفح موقع التواصل الاجتماعي في عجالة قبل الانصراف إلى عملي، فطالعتني صورته! لم أصدق! دققت في الصورة، كان هو! قرأت المنشور فكان اسمه ونعيه! وظللت مذهولا لدقائق فاقدا النطق والحركة والإدراك!

يقولون لمن عاش حياته دونما أثر يذكر، مات في العشرين، ودفن في الخامسة والسبعين، وبينما دفن أحمد في العشرين، لكنه سيظل يحيى كثيرا، بقدر أعمار كل من عرفه، وربما أكثر كثيرا

لم يعش الفتى طويلا، لكنه عاش كثيرا، فالعمر لا يقاس بطول الأيام وعد السنوات والشهور، إنما يقاس بعمقه واتساعه! وإنما يعرف اتساع العمر بحجم العمل، وقدر الأثر، وعمق الخبرة، وأثر التجربة. ولقد عايش صديقي أهوالا وآلاما لا أظن أكثر الطاعنين قد عانى بعضها، ولقد ترك أثرا في نفوس كل من عرفه وعايشه سيظل يشكل جانبا أصيلا من ذواتهم وجزءا أساسيا من شخوصهم على الدوام، ولقد أحرز تفوقا ونبوغا مذهلين في ظروف بالغة القساوة، فأخجل كل قرنائه، وأتعب من جاء بعده، فلم يدع لهم عذرا.

فهل بعد هذا يجرؤ أحد أن يدعي أنه قد مات صغيرا؟ كلا كلا.. مات كبيرا هائلا عملاقا، بجسد ضئيل وقلب منهك. فهل عاش حياة قصيرة!؟ ربما! لكنها حياة عميقة متسعة ثرية كبيرة، وهي لفرط اتساعها وشدة عمقها ضاقت عليها الدنيا، فأراد دارا أخرى أكثر رحابة، وحياة أخرى تطيق حياته! لولا فراق أحبته وثكل أمه لقلت: إني أغبط هذا الفتى لموته في تلك السنة الصغيرة! ألم يقل نبينا: إنما يعجل بخياركم؟ فقد اجتاز الامتحان، وعرف الإجابة، وأدرك الحقيقة، وأدى المطلوب كأحسن ما يكون، فليس ثمة داع لبقائه إذا! هكذا كان يرى أديبنا الراحل أحمد خالد توفيق (مات بالسرطان!)، تماما كطالب أنهى اختباره في ثلث الوقت أو ربعه، فهل يبقى إلى آخر الوقت المحدد؟ يبقى البطيئون والضعاف والكسالى والأغبياء والمترددون، الفائقون والأذكياء والواثقون وذوو الهمة يغادرون باكرا. 

يقولون لمن عاش حياته دونما أثر يذكر، مات في العشرين، ودفن في الخامسة والسبعين، وبينما دفن أحمد في العشرين، لكنه سيظل يحيى كثيرا، بقدر أعمار كل من عرفه، وربما أكثر كثيرا، فلا أظن أحدا عرفه لن يعلم بنيه كيف عاش! وقدر ما عاش! أدرك ستيف جوبز مؤسس شركة آبل العملاقة هذه الحقيقة، لكنه أدركها متأخرا قبل موته (مات بالسرطان!) كان دائما ما يحث الشباب وطلاب الجامعة على سرعة الإنجاز والتقدم في حياتهم، فليس أمامهم الكثير من الوقت كما يظنون!

لا مزيد من التسويف والتأجيل! لا تؤجل علما أو عملا نافعا أو حلما أو شغفا، لا تؤجل إحسانا أو جبرانا أو لقاء صديق أو صلة قريب، لا تؤجل قرارا أو موقفا أو نصرة أو نفرة، لا تؤجل عاطفة أو متعة أو وقتا طيبا أو شعورا أو فرحة، وليكن شعارك (هنا والآن!) فلست تملك غير هذا! وليكن لك يا أخي أثر طيب في حلك وترحالك، وفي نفس كل من يلقاك، ولتكن محمود السيرة لين المعشر، مباركا أينما كنت، ولتحيا كثيرا.. ولتحيا عميقا.. ولتحيا واسعا.. وكن أحمدا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.