شعار قسم مدونات

لا يخدعنك هتاف القوم في الوطن!

blogs مظاهرة النخب

جميلةٌ هي الشعارات الثورية الموسومة بعبارات القومية والوطنية والانتماء، والتي تشكل حافزا وأسلوبا جيدا وقويا لاستنهاض الأمة وعامة الناس، لأجل الانتصار لفكرة عادلة تصدح بحق واضح لا لبس فيه ولا غموض، وإن الثبات على هذه المبادئ والتمسك بها أجمل بكثير من السير في حدودها وأو التستر تحت ظلها لفترة مؤقتة، ومن ثم التخلي عنها، بحج واهية ومبررات غير مقنعة وأسباب لا تلامس الحقيقة أبدا.

والنضال من أجل تحقيق الحرية والتخلص من الاستبداد والظلم، أمرٌ عظيم يقع في صدارته النخب المخلصة والمفكرين الأفذاذ، ولا يسلكه من العامة سوى القليلون، لكن من سلكه سيشعر بلذة العزة والكرامة التي انُتزعت من بلدان كثيرة في هذا الزمن، بفعل اضطهاد تتسع رقعته كل يوم، فأصبحنا نعيش في عالم أصفه بأنه "اللا منطق"، بسبب وقائعه وأحداثه غير العادلة والتي تسير نحو الصدمات والمفاجآت دون أدنى مقدمات، فلم نعد نستيقظ من صدمة إلا وتظهر لنا أخرى، وأما ذلك الواقع المرير أصبح الاستسلام والتسليم لهؤلاء الطغاة سمة غالبة على كثيرين من الناس، ممن يوفرون على أنفسهم عناء ومتاعب المواجهة والصدام.

ولا شك أن هذه المواجهة تحتاج من الذين يسلكون طريقها الكثير من الصبر والتضحية، هذه الكلمة العظيمة التي تشمل التضحية بالنفس والمال والوقت والحياة وكل شيء؛ وبالرغم أن حياة هؤلاء الأشخاص قد نراها مرهقة للغاية ومتعثرة كثيرا، لكن تفاصيلها تتصف بجمال تعجز سطورنا المحدودة عن وصفه، فهم أمجاد وكرام وعظام يهبون حياتهم لغيرهم، ويصنعون عزة وكرامة أمة بأكملها، على أمل الوصول إلى مستقبل مشرق نتخلص فيه من طغاة العصر.

سنبقى نقدر ونحترم أعمالا وأفكارا ومبادئ، ولن نقدسُ أشخاصا فتدور بنا دائرة الانخداع، وتظهر لنا وجوها جديدة غير التي نعرفها ونحترمها، وتنكشف الأقنعة وما أخفاه الستار من خبث نكرهه

وعلى نقيض هذا المشهد الجميل والصورة التي تسطر بالدماء، نرى تقلبات وتحولات دراماتيكية كثيرة ومؤلمة في أفعال ومواقف كانت متجسدة في أناسٍ وأشخاصٍ وقامات كنّا نحسبهم أفاضل البلاد التي نعيشها، لكن ما فتأ الواحد منهم إلا وبدأ صورة جديدة معاكسة لما عهدناها، فيصيبنا شعور الفجأة من انخفاض هتاف الوطن الجميل رويدا رويدا، إلى أن يصبح إنسان لا يتكلم إلى بلغة الانفتاح والتحرر من كل ماضيه، قبل أن يتقن لغة البلد الذي يعيش، ظنا بأن دخوله هذه البيئة المختلفة بالكلية عن وطنه، تتطلب منه هذا الكم من التحرر غير الموزون!

لستُ عدوا لهذا التحرر، لأن استثمار بعضه جميل لتطوير ذاتنا بما يخدم أوطاننا؛ إنما الذي يحزننا الانسلاخ والتجرد بالكلية عن أوطاننا المحافظة، والتي لا يزال يكتسيها ثوب قبيح من القيود والظلم، فتحركني غيرة النصرة والمساندة لأهلنا ومجتمعاتنا المسحوقة بنيران القريب قبل البعيد، ورغم بعد المسافات فإن التضامن الوجداني أصبح حاضرا في كل لحظة ومع كل حدث، فالتشارك مع صانعي العزة والكرامة، هو الفخر الحقيقي الذي نستمد به حياتنا ونكمل به طريقنا.

هذا الفخر لا يدوم كثيرا، أمام من هتفوا في الوطن بشعارات برّاقة، واختلفوا خارجه بأحاديثهم وأفعالهم وحتى مظاهرهم؛ فيغيرون نظرة من حولهم تجاههم وتجاه أوطانهم، فنبدأ نُلمع ونُجمّل من ورائهم، وأنهم لا يمثلون من تركوا خلفهم في أوطانٍ مكبلة بقيود تنشد الحرية وليس سوى الحرية. هنا تتكشف حقائق من انخدعنا بهم على حين غفلة، وقلوبنا تتمزق على حالهم وحالنا من بعدهم؛ لكن الذي يواسي حزننا أن هناك آخرين يبذلون كل ما بوسعهم من أجل مواصلة صناعة العزة التي بدأوها في أوطانهم، فيتركوا في مكانهم الجديد، معانٍ سامية ومواقف مشرفة، فتكون بصماتهم تكميلا وانصافا ووفاء للقوم القابعين داخل حدود الوطن.

وأمام هؤلاء جميعا، سنبقى نقدر ونحترم أعمالا وأفكارا ومبادئ، ولن نقدسُ أشخاصا فتدور بنا دائرة الانخداع، وتظهر لنا وجوها جديدة غير التي نعرفها ونحترمها، وتنكشف الأقنعة وما أخفاه الستار من خبث نكرهه، ونلفظه بعيدا لعلنا نكون من أهل الصلاح أو نتقرب منهم، فإن التقرب إليهم فلاحُ؛ ولن يخدعنا مرة أخرى هتاف القوم في الوطن، فالقوم في السر غير القوم في العلن!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.