شعار قسم مدونات

الفكر الإسلامي والفلسفة.. علاقة صراع أم تعاون؟

blogs-مكتبة قطر الوطنية

 لعل أنسب سؤال لعلاج موضوع العلاقة بين الدين والفلسفة مفاده: هل الإنسان في خدمة الدين أم الدين في خدمة الإنسان؟ فمن المهم الإشارة إلى أن الخيار الأول يتمثل في مهمة الفقيه، وهو أن يُبين للناس كيفية الإتيان بالشرائع الإتيان السليم. أما الخيار الثاني هي مهمة الفيلسوف وهو أن يبين كيف يمكن أن يكون الدين محققاً لمنافع الإنسان. وطبعاً المهمتان متعاكستان لكنهما متداخلتان ومتكاملتان. الفيلسوف المسلم يستمد شرعية تفلسفه من تبدل الزمان وانتهاء النبوة، فلو تخيلنا أن النبي لم يمت أو أنه بشر بأنبياء من بعده لأصبح التفلسف في الإسلام غير ممكن.

كما أنه يستمد شرعيته أيضاً من نشدان الأفضل دائماً، فمهما تحقق الازدهار الحضاري وساد العدل والنظام فهو يسعى لأن يكون أفضل مما هو حاصل. ومهمة المتفلسف المسلم تقوم على اعتبار السياق العام للحقائق واتخاذها مرجعية وليست وسيلة، فهو ينظّر لتكييف المبادئ مع الظروف المستجدة من جهة ومن جهة أخرى يبحث لها عن أفضل تحقق ممكن، أما الفقيه فمهمته البت في الأحكام وفقاً لسياق قضايا الاستفتاء فقطـ، فنظرة الفيلسوف من هذا المنظور أشمل من المنظور الفقهي. تجديد تصوري عام، بينما الفقيه تجديده عملي في قضايا تطبيقية محددة.

وكثمال على استغرق محمد إقبال في دراسة الفكر الفلسفي في معاقله (بريطانيا وألمانيا) فقدّم محاضراته المعروفة باسم (تجديد التفكير الديني في الإسلام) وظّف فيها أحدث النظريات الفلسفية والنفسية في تفسير الظاهرة الدينية ومعنى العبادة والتصوف. مُعيداً قراءة التجربة النبوية وفقاً للمعطى الفلسفي الحديث. فقال مثلاً بأن تجربة التعبد النبوية دفعت بصاحبها إلى تغيير العالم، وأن فاعلية التعبّد تتجلى من شحن الفرد بدوافع العمل والتغيير الدنيوي.

من أهم الأسئلة التي يمكن يسألها المسلمون علاقة الإنسان بالطبيعة وافتراض أن الإسلام يقدّم أفضل توجيه لتحقيق التكامل مع الطبيعة..

أما مالك بن نبي وجد في الإسلام أنه هيأ اجتماعياً وثقافياً المناخ للإبداع العلمي والتقدّم الحضاري، واتخذ منه دليلاً على أن استئناف النهضة بما يقتضي صياغة إسلام يقوم بنفس المهمّة، مهمة تهيئة المناخ للتقدّم والنهوض، وعلى ذلك الأساس صاغ بن نبي نظريته عن الحضارة التي جعل فيها الدين هو العنصر المفعّل لبقية العناصر الحضارية الأخرى. فنحن نلاحظ أن كلا الرجلين أعطيا بُعداً دنيوياً تفعيلياً للدين. أي أن يكون الدين في خدمة الإنسان، والواقع أنه أصبح بإمكاننا الآن النظر إلى الدين بوصفه خادماً للإنسان، حيث الخلاصة أنه لولا الدين لما خرج الإنسان العربي من بداوته ولا قبليته ليصنع الحضارة التي امتدّت شرقاً وغرباً.

وهذا يجعلنا نرى إلى الدين من منظور الأداة التي حققت للإنسان مصلحته، وهذا لا يتنافى مع المنظور الفقهي الذي يُوجب أن يكون الإنسان خاضعاً للتشريع الإلهي. ذلك إن تحقق المصلحة ترتبط بالضرورة بالتزامات، وهي التزامات لها نتائج دنيوية أساساً.. وتبقى النتائج الأخروية شأناً فردياً كما قرر النص القرآني نفسه (الحساب الفردي). وإن إدراك هذه الحقيقة ستجعل حتى العلماني وغير المتدين يتلف ويتفق حول أهمية الدين والتدين كعنصر جالب للمصلحة، خاصة وأن الأبحاث العلمية اليوم تقرّ بأن التدين – بغض النظر عن طبيعته- غريزة وراثية للإنسان، لا تختلف عن غريزة اللغة، إذا لما يصل المرء في سن معينة يصبح باحثاً عن الإله أو القوة الغيبية؛ وما تقدّم إذن يصبح الموضوع متعلقاً بالتفكير في علاقة الإسلام بالطبيعة، فما معنى ذلك؟

تتميز الطبيعة بأنها سببية لا خوارق فيها، حيث أول ما يرد في الأذهان هو ذكر القرآن للقصص المعجزة، وهنا نلاحظ أن كل ما تعلّق بالخوارق يتعلق بأحداث ماضية، أما ما يتعلق بالشأن العام للمسلمين فلم يخرج عن السببية والأسباب. فكان من أهم الأسئلة التي يمكن يسألها المسلمون علاقة الإنسان بالطبيعة وافتراض أن الإسلام يقدّم أفضل توجيه لتحقيق التكامل مع الطبيعة، وأن الإسلام كعقيدة وتشريع جاء في سبيل تحقيق تواؤم مع الطبيعة. ومعنى ذلك أن نبحث عن فوائد الالتزام بشرائع الإسلام وتوجيهاته، من جهتين:

1- جهة عقلانية العقائد الإسلامية

2- جهة نفعية الشرائع الإسلامية

وهنا تحديداً تتداخل الفلسفة بالإسلام عقيدة وفكرا؛ وليس المقصود إخضاع العقيدة للعقل البشري القاصر، إنما محاولة اكتشاف مستمرة لمنطق الدين في تقديم التصورات للإنسان عن نفسه وعن العالم. مع الأخذ بعين الاعتبار ما بلغه العقل البشري من تقدّم في مجال المنطق والفلسفة بوصفها العلوم التي تعمل على تدقيق التصورات وتصحيحها عن الكون والإنسان. استناداً إلى حقيقة أنه كلما تقدّم الزمن كلما تقدّم العقل البشري وصار أكثر قدرة على الوعي مما كان عليه في الماضي؛ فالمنطق هو العلم الذي يبحث في إمكان تحقيق أدق وأصح صورة لأفضل طريقة لتجريد الحقائق وعن كيفية التفكير السليم.
 

معنى خلود القرآن هو في كونه نصاً له قدرة على مجاراة المعاني التي تتبدّل، بينما يبقى هو هو نفسه لا يتبدّل، بينما المعاني تتحول وذلك معنى التجديد في الدين

والفلسفة هي العلم الذي يقوم بأمثل توظيف وأفضل ربط بين نتائج العلوم المختلفة، لحوصلة أهم المدارك والمعارف الإنسانية للوصول كل مرة إلى خلاصات جديدة بناء على النتائج الجديدة للعلوم. فالعقيدة مسألة تصورية نحتاج فيها إلى ما يسمى بالعلوم التصورية، والعلوم التصورية تعتبر بمثابة أداة مساعدة في إعادة فهم وتصور العقائد الدينية كما جاءت في نصوص الوحي، وهنا يعني أن العلوم تتطور ذاتياً لوحدها من خلال العقل البشري، وأن هذا التطور هو موضوعي، وأنه مما أصاب المسلمين بعد انحطاطهم هو اعتبار العلوم في جلها أو في بعضها ضرباً من الأهواء البشرية والمؤامرات التي تناصب العداء للدين!

فأول ورشة عمل تتمثل في التفكير داخل العلوم والذهاب بالعقل إلى أقصى إمكاناته الذاتية من أجل تحقيق أصح التصورات عن الإنسان والطبيعة، بعدها نقوم بتوظيف تلك العلوم في فهم الدين، بحيث سيضمن لنا أن نستكشف أشياء جديدة في حقائق الدين والعقيدة.. ومعنى خلود القرآن هو في كونه نصاً له قدرة على مجاراة المعاني التي تتبدّل، بينما يبقى هو هو نفسه لا يتبدّل، بينما المعاني تتحول وذلك معنى التجديد في الدين. أما بخصوص نفعية الشريعة فليس هو إخضاعها لمصالح الناس القاصرة إنما التعامل معها بمنطق أن الشريعة لا تضاد مصلحة الإنسان العامة. وذلك ما صيغ مثلاً فيما يسمى بمقاصد الشريعة، ومصلحة الإنسان هنا هي على أوسع نطاق، بحيث لا ينتج عن المصلحة المحققة أي هضم لأي إنسان آخر، أو أي إفساد ممكن في الطبيعة.

وفعلاً سيكون من أجل تحقيق المصلحة العامة أن تسن تشريعات صارمة في حق الأفراد المخالفين لها، تماماً مثلما هو القانون الوضعي يسن أقصى العقوبات في حق منتهكي القانون، استنادً إلى مبدأ أن مصلحة الجماعة مقدّمة على مصلحة الفرد، ومصلحة المجموعة الكبيرة مقدمة على مصلحة المجموعة الصغرى، إلى أن نصل أقصى حد وهو المجموعة الإنسانية. ومن ثم فإن أهم وظيفتين في تحقيق منافع الإنسان هما القانون والسياسة، القانون بوصفه الإطار التجريدي لمصالح المجتمع المثالي، والسياسة هي المجال التنزيلي لأفضل مجتمع ممكن التحقق.

إذن فالحد الأقصى في العقيدة هو ذروة ما بلغته (الجماعة العلمية)، والحد الأقصى في الشريعة هو أقصى عدد من (الجماعة الإنسانية)، فما المقصود بالجماعة العلمية والجماعة الإنسانية.

1- الجماعة العلمية:
مجموعة أفراد ممن حصّلوا تكويناً في تخصصهم يمكّنهم من أن يتوصلوا إلى تقديم الأجوبة عن الأسئلة التي تفتح آفاق أمام العقل لإبصار الحلول عن المشكلات والعوائق المطروحة في الحياة البشرية.

2- الجماعة الإنسانية:
مجموعة الأفراد المنتمين إلى الجنس البشري ممن لهم حد أدنى من إدراك مصالحهم من خلال التفكير في الأزمات والعوائق العملية التي تواجههم، والتخطيط الأمثل لحلها. وفي الأخير فإن تحقيق مفهوم الأمة ضمن المنطق المعاصر كحاضنة لتحقيق قيم الدين ترتكز على أساسي (الجماعة العلمية) و(الجماعة الإنسانية) الجماعة العلمية ككدح نظري تحدد ضمن المنطق والفلسفة، والجماعة الإنسانية ككدح عملي تتحدد ضمن القانون والسياسة.

ومن ثم فإن المطلوب هو الالتحام بالجماعة العلمية الكونية والاندماج بالجماعة الإنسانية العالمية، واستعادة الوصل بين الجماعتين هو من صميم تحقيق قيم الدين. فاستعادة القيم ليس بداية من الصفر بقدر ما هو استمرار ومواصلة للتقدّم البشري نحو قيم العدل وقيم التقدم، وأنّ الميزان الأساسي لصواب اتجاه الأمة هو تحقيقها لعقائد ذات وضوح منطقي مشترك، وتحقيقها لمنافع ذات بعد شامل.

بهذا تتخلّص الأمة من داء الاعتقاد الغامض بصواب إيمانها، لأن المشكلة كلها في اعتقاد المسلمين أن تصوراتهم صحيحة لذاتها، وليست لأنها قابلة لأن تكون منطقية تنسحب على جميع البشر، وذلك ما يجعل تناسب العقائد الإسلامية مع علم المنطق المعاصر ليس مجرد خيار ثانوي بقدر ما هو ضرورة حيوية. سواء لاستعادة قيم الدين الحي أو لاستئناف الفعل الحضاري، وأخذاً بعين الاعتبار مبدأ المصلحة العامة التي تطال البشرية قاطبة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.