شعار قسم مدونات

مهما فعلت لن يتركك الناس وشأنك!

BLOGS مجتمع

معضلة مجتمعيّة أصبحت تستَشري في أوصالنا بشكل يُسقِمُ الفؤاد، فصار المرء أشبه بمقياس ريختر يقيس به النّاس، يتربّص بهم ويقنص أحوالهم ويصنّفهم كأنّه يتحدّث بلسان السّماء، وكأن ليس لديه رقيب عتيد. وكم تعجّ الحياة بأمثال هؤلاء! حيث تسارع واتّسع نطاقها مع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، وهو الحصار بعينه في بوتقةِ الجاهليّة الحديثة!

حادثة الإفك هزّت مجتمع المدينة المنوّرة بأسره، وغيّم سوادها على حياة السيدة عائشة – رضي الله عنها – واصطدمت قلوب أناس ليس لهم فيها ناقة ولا جمل بواقعٍ لا يريدونه. فقد رُميت بالزّنا ومُحالٌ أن ترقُدَ في نقاوة طهرها هكذا رذيلة، فبعد انتهاء إحدى الغزوات، تخلّفت عن قافلتها في حلكِ الظَّلام لأجل البحث عن عقدها الثمين الذي أضاعته، حالها كحال أيّ فتاة في أوج صباها تحبّ الحِلى. عادت فكانوا قد رحلوا بهودَجها دونها وارتأت أمناً أن تبقى في ذات المكان علّ أحدهم يعود أدراجَه. فأقبل الصحابي صفوان بن المعطل براحلته فركبَتها دون نقاش، و بدا لها أنه أُرسِل من قِبَل الجيش، وكيف سيخطر ببالها أنه سيقال فيها ما قد قيل.

وقلبت الحقائق لحظة وصولهم للمدينة وحدث ما لم يكن في الحسبان، وافترى عليهم أحد المنافقين بالفاحشة وانتشرت الشائعة كإذكاء النّار في الموقد، وروّجت لها أبواق الدعاية والشّر أيَّما ترويج، ولغط المنافقين ومن تأثر بهم من أهل المدينة في سمعة السيدة عائشة. والنبي ﷺ يمرّ عليه اليوم ثقيلاً موجعاً مما يفيض به الناس من قول الإفك، وهي مريضة لا تدري بشيء من هذا. ولكن كان يريبها أنّه ما عاد يبدي لها ما عهدته من لطفه وممازحته وإرضاؤها حين تغضب، لا يلمسها ولا يجالسها. ولما عرفت جعلت تبكي ليلتين حتّى ظنّ والديها أنّ البكاء فالقٌ كبدها.

لقد أنزل الله في برائتها كتاباً يتلى من السّماء السّابعة، لأنّه الحق ولو امتلأت أركان الدنيا بأكبر الاتّهامات والأقاويل وغُلِب الإنسان، فإن الله سينصره ويرسل في دربه من يدافع عنه.

تكاد لا تأكل ولا تشرب ولا تكتَحل بنوم، وأيّ فِريَةٍ أعظم من أن تتّهم المرأة في عرضها وهي بريئة. ولأوّل مرة بعد مرور قرابَة الشّهر ولم يوحَ إليه بشأنها، يمشي رسول الله متجهاً نحو بيتها فيدخل عليها وهي منطوية في فراشها، تنظر إليه بعينين ذابِلتين هدّهما السّهر والبكاء، والحزن قد غطّى خافقَها حتى باتت تعجز عن تحريك أوصالها، وعندها أبويها وامرأة من الأنصار تبكي مؤازرة لبكائها دون أن تتفوّه بكلمة، وأيّ أخوّة أعظم من هذا!

ورسول الله ﷺ ينظر إلى عائشة حبيبته وزوجته التي كان حين يُسأَل من أحبُّ النّاس إليك يقول: عائشة، فجعل ينتزع منها الكلام انتزاعاً فقال: "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ؛ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ". قال كلماته هذه وسكت، فقالت لأباها: أجب عنّي رسول الله، فيقول: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ، ثمّ تلتفت إلى أمّها لتجب بذاتِ الشّيء، ترى أي قلوب يحملون في صدورهم ليحتملوا موقفاً عصيباً كهذا!

فجفّت مآقيها من هولِ وقْعِ الكلام على قلبها ثم قالت: "إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ، وَصَدَّقْتُمْ بِهِ، فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ – وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ – لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ، وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ- وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ- لَتُصَدِّقُونَنِي، وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ" ثم تلفّفت بلحافها وانفجرت تبكي، وأقصى أمنياتها أن يرى فيها رسول الله ﷺ رؤيا تبرّئها. لم تنشغل بمبررات تدافع فيها عن نفسها ليصدّقها أحد، فهي تعرف نفسها جيداً، وما عارضت أقدار الله بأيّ لفظ.

فما قام أحد من مجلسه وما خرج أحد من البيت حتى أحسّت بعلامات نزول الوحي على رسول الله، فعرفت أنّه يوحى إليه ثم ضحك وقال: "أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ" لقد أنزل الله في برائتها كتاباً يتلى من السّماء السّابعة، لأنّه الحق ولو امتلأت أركان الدنيا بأكبر الاتّهامات والأقاويل وغُلِب الإنسان، فإن الله سينصره ويرسل في دربه من يدافع عنه، فأسامة بن زيد ناصح رسول الله بالحسنى حين قال في عائشة: "هم أهلك ولا نعلم عنهم إلّا خيراً".

ابتلاءٌ عظيمٌ كهذا يتّعظ به إلى هذا اليوم، ولا يمكن أن يحتمله أيّ إنسان أو يتغلّب عليه إلّا من كانت شخصيّته قويّة حقاً، ومهما بلغ منْ قوَّةٍ فهو ضعيفٌ بمفهومٍ ما! وأمور كهذه تحتاج إلى التروّي قبل أن يُتّخَذ موقفٌ منها. فقد يَفقِد المرء صوابه، ويتسرّع في إيجاد حل يبرّئه ويذبّ كلام الناس عنه. ويال شناعة جرمٍ كهذا يحدث جراء مهزلةِ نقل الكلام دون اكتراث، انتهزه الشّامتون وتراقصوا على مصاب عائشة الجلل، فضخّموا الأمر بحبكه بأمورٍ لا تمتّ له بصلة، واختبارٌ لضعيفي الإيمان من يفتنون بكلّ أمرٍ يحكى، دون إلمامٍ ودراية كافية بأصل الموقف.

هناك قاعدة قرآنية يغفل عنها كثيرون، قال تعالى:
هناك قاعدة قرآنية يغفل عنها كثيرون، قال تعالى: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" وهي قانون العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض، فالله يحاسب كل إنسان حسب أفعاله، ولا أحد يحمل خطيئة أو جريرة أحد ما لم يكن له يد فيها

تعلّمنا هذه الحادثة أنه قد يكون هنالك دخانٌ بلا نار! وأسوأ ما يمكن أن تقدّمه لإنسان أن تحكم عليه دون أن تسمع منه، وإنّه من عدم الإنصاف أن ننظر بعين واحدة أو باتّجاه واحد للأمور ثم نحكم ونقضي، والله يقول: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ" ولو اطّلعنا إلى حالنا اليوم، لوجدنا ما يتزاحم إلى أسماعنا بشكل يصل إلى تحميل شخص وزر آخر أو حادثة وزر أخرى؛ مثل: "انظر لابتلاءاتك التي أنت فيها.. هو يستحق ما حدث له لقد جازاه الله لما فعل بي.. هذا الحادث خطيّة فلان.." أو ننعت فعل أحدهم بالحرام دون بيّنة، فينسب ذنب صانعي الخمر لبائعي العنب مثلاً، وأحياناً همزة ولمزة تكفيان بأن تفقأ عين الآخر.

هذا وإن كان البشر سيتولون تفسير حياة الناس بما تمليه عليه أنفسهم، ويبقى حساب هذا لهم كأنّ مغارف علمهم أحاطت بكل شيء، فحقاً ‎لا أدري والله أين وضعوا الله من هذا؟ و‎أي جرأة تتملكهم!؟ وكأنّ حسّ الشماتة بات محقوناً في شريانهم. أو ربما لتصاعد جهلهم بالفهم الصحيح للدين، أو أنهم يعيشون وفقاً لنصوص توارثوها تشبّثت بها عقولهم لا أكثر، أو أنهم لا يريدون أن يفهموا بتاتاً. فينسحبون تكتيكياً إذا ما بدت الحقيقة حفظاً لما تبقى من ماء وجوههم، وأيّ تبرير سينطق به اللّسان حينها، وماذا جَنوا غير المظالم وسوء الظّن وخسارة المحيطين بهم؟

هناك قاعدة قرآنية يغفل عنها كثيرون، قال تعالى: "وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ" وهي قانون العدل والقسط الذي قامت عليه السماوات والأرض، فالله يحاسب كل إنسان حسب أفعاله، ولا أحد يحمل خطيئة أو جريرة أحد ما لم يكن له يد فيها، قال تعالى: "وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا" فقرار كل شخص على حدة أو عقابه لا يؤثر على غيره، ولو في أشدّ العلاقات متانة، فنوح عليه السلام لم يستطع منع عذاب الله عن ابنه الكافر بعد أن حاول جاهداً لهدايته.

إن الله وضع الرّحمة في باطن كل قدرٍ مؤلم، ولكنه يمتحن كل أبعاد الإنسان ليرى ماذا يصنع، لكن لا أحد منّا يعلم أن الموقف أو المصاب السابق أو الحالي أو اللّاحق هو عقوبة أو رحمة وامتحان لأحدهم، وقد يقع علينا ظلم حقّاً، ولكن لسنا الحَكَم على اللّكمة التي ستصيب حياة الظالم في وقت ما، لأنّك لا تدري كيف وأين ومتى سيجازيه الله، وأحياناً لا يشكو الإنسان بلاءَه بالقدر الذي يُفسّره الناس، بل قد يشحذُه ليصبحَ أقوى وأفضل. ولأنّه الله، ولأنّه أجلّ من أن يُجادَل بصفاته العليا وهو من حرّم الظّلم على نفسه، لا يحقّ لنا ظلمه عز وجل بما تحصده أحكامنا البشرية على بعضنا البعض.

كما أنّ حياة أحد فينا لا يمكن أن تكون ورديّة، لكنّهم يزعزعون طمأنينة الحياة والرّضا في نفوسنا يدسّون الرّيبة في عقولنا إزاء حكمة وقضاء الله في أحوالنا، فنكره ما يحبّه الله لنا، ويشتّتون فكرة الصّبر وأجره فينا. فلنقوَ بحبّنا لله وباختياره لنا بعد الأخذ بالأسباب، ولننظّف عقولنا من هراء الآخرين وانقيادنا لأحكامهم، وألا نكون سطحيين فنقوّم ظاهر الأمر ولا نقوّم باطنه. ومن العدل أن يجعل المرء تجربته هي الحكم، ولنتعلّم الإنصات وتفهُّم الآخرين في حديثهم وصمتهم، ويا حبذا لو نترك الناس وشأنها ونسعى لإصلاح أنفسنا، فالطّريق مليء بمن يضيف لحياتنا شيئاً ولو بسيطاً؛ لذا امضِ في الحياة وأنت صديق تقضي حوائج الناس، لا قاضياً يحكم عليهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.