شعار قسم مدونات

تأملات وجودية في "مذكرات الأرقش" لميخائيل نعيمة

مذكرات الأرقش

تمنحنا القراءة حرية التجول في عقول المفكرين والأدباء، وتوسع مداركنا وآفاقنا الفكرية، وتغير نظرتنا للوجود، إن القراءة بتعبير الجميلة الصغيرة مريم أمجون مستشفى للعقول، ورغم المسافة الزمنية التي تفصلنا مع الكتب التي نقرؤها، فإننا نجد أنفسنا وأفكارنا تتحاور وتتناسب معها، تفاعلا مع الرسائل الروحية والحكم الفلسفية والأفكار التنويرية التي يبثها الكتاب في كتبهم، واتساقا مع هذا التفاعل فإنني لما ابتدأت في قراءة كتاب "مذكرات الأرقش" لميخائيل نعيمة، لم أكن أضع في حسباني أن أكتب هذه الإشراقة النقدية، ولكن لما أكملت الكتاب وجدت في نفسي نوعا من الحوارية الذاتية مع الأحداث والأفكار التي يعبر عنها الكاتب، وتبينت لي أنه يعبر عن رسالة وجودية تحمل سرا من أسرار البشرية، سأسفر عنها في ثنايا هذه الورقة.

إن "مذكرات الأرقش" مذكرات تأملية لأرقش كان يشتغل في مقهى عربي بنيويورك، أعاد ميخائيل صياغتها من جديد، فهي تحكي لنا عن أرقش كان يدون في مذكرته تدوينات يعبر فيها عن حياته، ومعاناته، ووجدها نعيمة عند صاحب المقهى فطلب منه أن يبيعها له، فقدمها له هدية؛ لأن الأرقش الذي كان يدونها قد رحل، دون أن يعلم مشغله سبب مغادرته، ولماذا لم يعد؟ مفترضا أنه قد أصابه مكروه، أو مل من الأشغال، فأخذ نعيمة تلك المذكرة دون أن يتردد؛ لأنه اطلع على ما كُتِبَ فيها من أفكار ومشاعر وجودية، ترسم لنا ما تعيشه البشرية من أحداث، تبين أن مدونها قد عاش تجربة لها محاملها الفلسفية، ونتساءل فنقول: من هو الأرقش وما رمزيته داخل النص؟ وما التأملات الوجودية التي يعبر عنها الأرقش في مذكراته؟ 

الأرقش إذا كان يدل في العربية على الشيء المنقط بالسواد والبياض، فإنه ههنا يرمز إلى نقطة بيضاء هي الموت، ونقطة سوداء هي الحياة

الأرقش في المذكرات هو طفل يتيم يبحث عن ملجأ يبيت فيه، وعن عمل يكسب منه قوت يومه، فكان يبحث حتى وجد مقهى شين العربي، فرحب به، وعلَّمه كل ما ينبغي أن يقوم به، من غسل الأواني وإعداد القهوة والشاي، فلم يجد الطفل الصعوبة في التعلم، واستمر في العمل حتى ألِفَه شين، وأعجِبَ به كثيرا، واشتغل براتب شهري يسير، كان بمثابة الطفل المؤنس الذي يدخل الفرحة على قلب شين، ومن خواصه أنه كان أخرسا لا يحب أن يتكلم كثيرا، يجهل اسمه واسم أمه وأبيه، لا يكاد يعرف شيئا، لهذا كان الناس ينادونه بالأرقش.

عهد الطفل على تسجيل كل أفكاره وتأملاته في قرطاسه، وقد يستمر صامتا لبعض الأيام دون أن يكتب شيئا في مذكرته، التي تحوي كل ما تتخبط فيه البشرية من مشاكل، وتولد هذا من الحالة الصامتة والانعزالية التي يعيشها، إنه تعلم أن ينظر إلى الأشياء نظرة استبصار، يتحاور معها ساكتا، ساكن لا يتفاعل مع محيطه الخارجي، وما يدريك أنه يصطلي في دواخله، وكأن شجرة موقدة تحترق في داخله، فتركته مصدوما ينتظر مصيره، لربما شبيه بشخص أنشئ من مكونات الطبيعة الكونية وسننها، فألقى به القدر في هذا الوجود ليكشف لنا حقائق الناس وأسرارهم في الدنيا.

إن الأرقش إذا كان يدل في العربية على الشيء المنقط بالسواد والبياض، فإنه ههنا يرمز إلى نقطة بيضاء هي الموت، ونقطة سوداء هي الحياة، وداخل المذكرة الأرقشية معاني متعددة، لها تأويلات امتدادية وارتدادية، فالبناء الثنائي في الكتاب تشيده النقط البيضاء والسوداء، فإذا نظرت فيه وجدت الحزن والفرح، والأمل والألم، والخوف والشجاعة، والعلم والمعرفة، فرمزية الأرقش الوجودية في النص، رمزية نورانية، تجهل ذاتها، إنه شخص يولد كلما اكتشف في البشرية سرا من الأسرار، يقول في ذلك: "أولد ولادة جديدة كلما تولد في رأسي فكر جديد" (ص13)، كلما أدرك شيئا إلا وأدرك معه ولادة أخرى في نفسه، فبلغة القلوب حاول أن يبين لنا حب الناس وألمهم، وفرحهم حزنهم، وعيشهم، وحربهم، وشرهم وكذبهم ومكائدهم، وحريتهم.

يقوده التساؤل الوجودي عن ماهيته، وسر وجوده إلى اكتشاف ذاته كل يوم، فهو الذي يستحم بأحزانه،، قائلا: "الناس يستحمون بماء البحر، وأنا استحم بأحزاني" (ص31)، دائما ما يردد في مذكرته: سألت نفسي، يسأل نفسه طبقا لما يراه في الناس من سلوكات وأفعال مخالفة للغرض الوجودي، فيظل ساكتا متأملا، لسانه مرتبط بالمذكرة الفلسفية، وكأن تلك الخصال التي تَكَون منها وجدها غير موجودة في الناس الذين يحيطون به، قد ملَّ من كثرة السكوت، فراح يبحث باعتباره الشخص المجهول عن بعضه المعلوم، ليتعرف عن نفسه، وأمه، وأبيه، وسر وجوده وكينونته، فسكونه هو تلك الشرارة التي تبحث عن تفاعلات لتشتعل وتحترق. كنا قد تساءلنا عن ماهية هذه التأملات الوجودية في مذكرات الأرقش، ونلمسها في النقاط التي تبدتت وتأت لنا بالتمعن في المذكرات، ونبينها فيما يأتي:

البحث عن الذات ومخاطبة الجوارح

وجد الأرقش نفسه في عالم غريب لا يعرف ذاته، ولا يعرفه أحد، دائما ما يلح الناس أن يسألوه عنن اسمه، فيجيبهم لا أعرف، يروح ويجيء صامتا لا يتكلم، كان يجيب مخاطبيه بنعم أو لا، هو الشخص المجهول في الوجود، الذي يحمل معالم الصدق والحب والأمان، والتعامل الحسن، وصفاء القلب، هو القسم الساكت من أقسام الإنسان، يتألم بجرح عميق.

ويؤكد لنا أن الإنسان لا يحتاج أن يمتلك أما أو أبا أو اسما ليصير إنسانا، إن الحياة لم تكن لتسمى حياة لولا الفكر المتجدد، فهو أرقش لا تعنيه معرفة ذاته بالأشياء الظاهرة، يقول: "ما دمتُ فكرا متجسداً لا جسداً مفكراً، فأنا في كل لحظة، أو أقل منها إنسان جديد"، وغيرها من الأمور التي يبحث فيها الأرقش المجهول عن معرفة ذاته الساكتة في عالم يجعل من الاسم سجلا للحياة. وقد قاده البحث عن ذاته المحاورة مع جوارحه ومساءلتها مساءلة فلسفية، فتحدث مع عينه، وسمعه، وأمعائه، حيث إن وجوده غريب، وعزلته وحشة، وسكونه سجن، إنه يسمع الموت دون الحياة، وينطق بالدمار لا بالعمار، ومبصر للفناء لا البقاء.

البحث عن ماهية الإنسان:

تحمل مذكرات الأرقش تصورا فلسفيا عن ماهية الإنسان، بقوله: "فالإنسان للحياة لا للموت، وللمعرفة لا للجهل، وللحرية لا للعبودية" (ص76)، هنا يجعل إنسانية الإنسان محددة في ثلاث مسائل ترسم وجوده وحياته، فَخُلِق ليعيش لا ليحارب، وليتعلم ويكتسب المعرفة، وأن يعرف الله حق المعرفة، فلو كان الناس يعرفونه ويؤمنون به ما تقاتلوا وتناطحوا من أجل أن تناصر كل طائفة معتقدها، فيجب أن يجمعنا معتقد واحد، ودين واحد، يقودنا إلى معرفة أصل واحد هو الله، وأن يكون حرا متجنبا للعبودية الإنسانية، فقد شهد أن الإنسان يطالب بالحرية ولكن يمارس العبودية على نفسه بعبودية الملك، بقوله: "لذلك يمجدون اسمك بشفاههم ويدسون جسدك بنعالهم، ولقد رأيتهم اليوم بعيني يسحقونك بأقدامهم، ويهتفون ليحيى الملك" (ص65)، فنرى أنه يطالب بالحرية ويقاتل من أجلها، ولكن ههنا كأنه يقول: "ليحيى الرق، والموت للحرية".

undefined

تختلف مدارك الإنسان وحاجياته، وتصوراته، وأشغاله ومعتقداته، فالإنسان شخص تقتله تقاليده وتصرعه مراسمه دون أن يدري مؤتى ذلك وسره، فيكون منعرجه العيش جهلا حتى الموت، والذي يحدد ماهية الإنسان في المذكرات لما قسم الإنسان إلى أربعة أقسام، فيقول هناك: "إنسان جُله بهيمة وبعضه إنسان، وإنسان نصفه بهيمة ونصفه إنسان، وإنسان جُله إنسان وبعضه بهيمة، وإنسان كله إنسان" (ص78)، فالتقسيم فلسفي تأملي يبرر أن عقلية الأرقش تعيش حالة روحانية تتصل فيها العقل بالروح، فالإنسان الأول تغيب فيه الكمالية وتنعدم فيه، والثاني حلم بالكمال ولا يبحث عنه، والثالث فهو الإنسان الحقيقي على اعتباره يحلم ويفكر ويؤمن ويشتاق، والرابع وصل إلى ما وراء العلم والفكر والاشتياق والإيمان، إنه إنسان ميتافيزيقي، وجعل الناس نوعين: الصامتون والمتكلمون.

التعبير عن المكنونات

تتبين للناظر في المذكرات أن الأرقش لم يتفلسف في ذاته وماهية الإنسان فقط، بل نجده يؤسس لتساؤلات فلسفية عن الأحاسيس التي يحس بها الإنسان، ولن أقدم جميع المكنونات الداخلية، بل سأكتفي بالحب والألم، ويظهر لنا الأول لما تساءل فقال: سألت نفسي ما الحب؟ وحدده لما عقد مقارنة بينه وبين الزواج، إذ يتساءل كيف يؤدي الحب إلى زواج؟ "فالحب يسمو بالمحب إلى أعلى، والزواج يشد به إلى أسفل… الحب ذوبان فتبخر فانعتاق، والزواج تجمد فتصدع فانشقاق" (ص70)، فقدسية الحب وجلاليته وعظامته ما تفتأ حتى يقتلها الزواج، فالشعلة التي تضيء طريقك الروحاني تنطفئ في اليوم الأول من حفل زفافك.

وأما الألم فقد أسبغه بسمة ايجابية لما قال: "فالألم شجرة ثمارها المعرفة، والمعرفة زاد يتزوده المتألم في يومه لغده" (ص96)، وإن الألم هو الذي يجعلك تتعرف على نفسك كل يوم، لتعرف سبب التألم لتجاوزه، فهو الذي يولد في رأسه فكرا جديدا، ويمنحه ولادة جديدة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.