شعار قسم مدونات

بين أحمد شوقي وأتاتورك.. خيبة أمل!

blogs أحمد شوقي

لما علا نجم مصطفى كمال أتاتورك في بداية الأمر، توسّم به الناس جميعًا كلّ خير، ومنهم أمير الشعراء أحمد شوقي، توسم به الخير، وظنّه مجددًا للإسلام، فمدحه بقصيدة عظيمة، مطلعها:


الله أكبرُ كم في الفتح من عَجَبِ
يا خالدَ التُركِ جدّد خالدَ العَرَبِ

صلحٌ عزيزٌ على حربٍ مظفرةٍ
فالسيف في غمدهِ والحق في النصب

ومنها كذلك:

حذوتَ حرب الصلاحيين في زمنٍ
فيه القتالُ بلا شرعٍ ولا أدبِ

لم يأت سيفكَ فحشاءً ولا هتكت
قناك من حرمة الرهبانِ والصُلُبِ

ثمّ تعرّض في القصيدة نفسها لمعاهدة "لوزان" الشهيرة وكان أيضًا رأى بها وفي السِلم خيرًا، ويبدو أنه عند نظم القصيدة لم تكن عُقدت بعد، بل كانت في طور الإعداد، فقال يمدحها ويمدح صبر الأتراك:

تدرّعت للقاءِ السلمِ أنقرةٌ
ومهّد السيفُ في «لوزان» للخطبِ

فقُل لبانٍ بقولٍ ركنَ مملكةٍ
على الكتائبِ يُبنى المُلكُ، لا الكتبِ

للتركِ ساعاتُ صبرٍ يوم نكبتهم
كُتبنَ في صُحف الأخلاقِ بالذهبِ

وصف أحمد شوقي في قصيدته كيف تمكن الغرور من الرئيس مصطفى كمال، وشبههُ بمن تمكنت منه الخمر حتى قضت عليه، ووصف كيفَ بالغت الناس فيه حدّ الألوهة

ثمّ عُقدت معاهدة لوزان، وهُدمت الخلافة الإسلاميّة العثمانيّة، وأُعلنت الجمهوريّة التركية، وتم إلغاء الإسلام دينًا للدولة، وحلّت محلّه العلمانية، ونُفي السلطان وكلّ آل عثمان من البلاد بأمر مصطفى كمال، ووصل الأمر إلى منع "الطربوش" فقط لأنه كان يُلبس في العهد العثماني، واستُبدل بالقبّعة، والكثير من التغييرات التي فجعت شوقي فكاد يفقد قلبه من هول الأمر، مما جعله يتفجّر برثائيّته الشهيرة في الخلافة العثمانيّة، والتي جاء في مطلعها:

ضجّت عليكِ مآذنٌ ومنابرٌ
وبكتْ عليكِ ممالكٌ ونواحِ

الهندُ والهةٌ، ومصرُ حزينةٌ
تبكي عليكِ بمدمعٍ سحاحِ

والشامُ تسألُ والعراقُ وفارسٌ
أمحا من  الأرضِ الخلافةَ ماحِ؟

ثمّ ذكر أنّ ما جرى للخلافة العثمانيّة كان من أهلها قبل غيرهم، وأراد بذلك من عاونوا مصطفى كمال ووافقوه على هدمها، فقال:

إنّ الذين أستْ جراحكِ حربهم
قتلتكِ سلمُهُمُ بغير جراحِ

هتكوا بأيديهم ملاءةَ فخرهم
موشيةً بمواهبِ الفتّاحِ

نزعوا عن الأعناقِ خيرَ قلادةٍ
ونضوا عن الأعطافِ خير وشاحِ

ثمّ قال يلوم نفسه ويؤنّبها على مدح مصطفى كمال أتاتورك الذي أصابَ العالم الإسلامي وشاعره شوقي بخيبة أمل كبيرة، فقال:

مالي أطوقهُ الملامَ، وطالما
قلدتهُ المأثور من أمداحي

هو ركنُ مملكةٍ وحائطُ دولةٍ
وقريعُ شهباءٍ وكبشُ نطاحِ

أأقولُ من أحيا الجماعةَ ملحدٌ؟
وأقول من  ردَّ الحقوقَ إباحي؟

الحقُّ أولى من وليّكَ حُرمةً
وأحقُّ منكَ بنصرةٍ وكفاحِ

فامدح على الحق الرجالَ، ولُمهُمُ
أو خلِّ عنكَ مواقفَ النُّصاحِ

نحن لا ننكر بطولة أتاتورك الحربية وأنه إنسان عصاميّ ترقى إلى أعلى المراتب من لا شيء، ولكن في المقابل يجب أن يعترف الجميع أنّه رضخ للغرب وكان بكل أسف مطيّةً لهم عبروا من خلالها إلى مصالحهم
نحن لا ننكر بطولة أتاتورك الحربية وأنه إنسان عصاميّ ترقى إلى أعلى المراتب من لا شيء، ولكن في المقابل يجب أن يعترف الجميع أنّه رضخ للغرب وكان بكل أسف مطيّةً لهم عبروا من خلالها إلى مصالحهم
 

ثمّ وصف كيف تمكن الغرور من الرئيس مصطفى كمال، وشبههُ بمن تمكنت منه الخمر حتى قضت عليه، ووصف كيفَ بالغت الناس فيه حدّ الألوهة، فقال:

إنَّ الغرورَ  سقى الرئيسَ براحهِ
كيفَ احتيالُكَ في صريع  الراحِ؟

تركتهُ كالشّبحِ المؤلّهِ أمّةٌ
لم تسلُ بعدُ عبادةَ الأشباحِ!

وفي نهاية القصيدة، بيّنَ شوقي كيف دعمت دول الاستعمار مصطفى كمال، ووقفت إلى جانبه حتّى أزاحت الخلافة الإسلاميّة، وهو ما يخالف زعم الكثير من المؤرّخين الذي زعموا أنّ مصطفى لم يخضع يوماً للإنكليز أو غيرهم، فقال:

هم أطلقوا يدهُ كقيصرَ فيهمُ
حتّى تناولَ كلّ غير مباح!

غرتهُ طاعاتُ الجُموعِ ودولةٌ
وجدَ السوادُ لها هوى المرتاحِ

بِالأَمسِ أَوهى المُسلِمينَ جِراحَةً
وَاليَومَ مَدَّ لَهُمْ يَدَ الجَرّاحِ!

وفي ختام هذه الخيبة الكبيرة، وهذا الألم التاريخيّ.. هذا هو أميرُ شعرائكم يخبركم بالوقائع التاريخية كما حدثت، وكان شاهدًا عليها بنفسه، وقد عايش الخلافة العثمانيّة زمنًا طويلاً، فكان شاعرًا ومؤرّخًا وعبقريًّا، رحمه الله، فخذوا عنهُ، ولا يغرّنكم من يشوّه التاريخ من أصحاب المصالح، نحن لا ننكر بطولة أتاتورك الحربية وأنه إنسان عصاميّ ترقى إلى أعلى المراتب من لا شيء، ولكن في المقابل يجب أن يعترف الجميع أنّه رضخ للغرب وكان بكل أسف مطيّةً لهم عبروا من خلالها إلى مصالحهم، ومزّقونا عسكريًّا واقتصاديًا وسياسيًا وعلميًا وأدبياً.. لقد فرقونا ليجتمعوا وقد نجحوا ووصلوا لما أرادوا، ولا أُحمّل أتاتورك كلّ هذا طبعًا.. ولكن أحمّله أكثره!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.