شعار قسم مدونات

رسالة أم لابنها في زمن السوشال ميديا

blogs وسائل التواصل

أي بني، لا تكن من أولئك الذين يعرضون حياتهم على الملأ ليظهروا سعادة تخفي خلف شاشاتهم الكثير من التعاسة والشقاء. ولا تنظر بعين المنبهر لتلك الأناقة وذاك الترتيب والفخامة في عرض بيوتهم ومناسباتهم فمعظمهم يعيش تحت وطأة القروض لما يقارب عقد وقد يمتد لربع قرن بل ويزيد وادعُ ربك أن يحفظ قلبك من ما زُيّن في أعينهم واشكر ربك أنك لم تبتلى بحب التباهي والتفاخر بصغائر الحياة الدنيا.. ولا يغرنك تلك السعادة التي يجتهد الآخرون في عرضها لك فهي تمثل أجزاء من الثانية وإن صوروها بالصوت والصورة فهي دقائق معدودة من يوم فيه أربع وعشرون ساعة أنت لا تعلم كيف يقضونها.

 

واعلم يا بني أن هذه الدنيا دار ابتلاء ليست لك فقط وإنما لكل ابن آدم كتبت له حياة على هذه الأرض. فاعلم يقيناً يا بني أن من يصورون لك حياتهم على مواقع التواصل الاجتماعي على أنها حياة مثالية خالية من العيوب والأخطاء هم أيضاً مبتلون بأشياء لن يفصحوا لك عنها إما بقصد لكي لا يفقدوا هالة "المثالية" التي رسموها لأنفسهم واعتقد بها متابعيهم أو بغير قصد لأنهم يحاولون أن يعرضوا لك الجوانب الجميلة من حياتهم. إن الزهد في الحياة في زمنك يا بني أصبح من عزم الأمور. وهو من أفضل الصفات التي أتمنى أن أراك تتحلى بها وتحث عليها.

  

هذا العالم الافتراضي الذي أنت جزء منه كما أنت جزء من هذا العالم الواقعي فيه الخير وفيه الشر، فأخذ منه ما ينفعك واترك منه ما يضرك وخذ منه اجازة دورية لتسمح لنفسك بالتفكر والتعمق في خبايا روحك

لا تقارن حياتك بحياة أحد وكن شاكراً للنعم زاهداً فيها واعلم يا بني أن زيادة المال قد لا تكون نعمة إنما ابتلاء؛ فتجنب تحولها إلى نقمة بزيادة عطائك بدلاً من مجاراة المظاهر. لا أعني بذلك أن تحرم نفسك من متع الحياة ولذاتها وإنما أدعوك لأن تنتقي منها ما يسهل عليك حياتك وليس ما يدعوك للتفاخر واعلم أن كلاهما حلال ولكن هناك حلال يرتقي بالنفس ويجعلها تسبح بخفة في ملكوت الله وهناك حلال كثرته قد تفسد القلب وتعلقه في هذه الدنيا التي لم تدم لبشر قبلك ولن تدوم لأحد بعدك. وتذكر يا بني قول سيدنا علي أن السلامة فيها ترك ما فيها، فلا أتعس يا بني ممن يغفل عن أنها رحلة قصيرة جداً تفضي إلى دار الخلود.

 

لذا فاجعل لك فيها هدفاً واسعَ بكل ما أوتيت من قوة لتحقيقه وإن كان لا بد من الشهرة فأشهر فكرتك لا نفسك فأنت عاجلاً أم آجلاً غائب عن هذه الدنيا لا محالة والفكرة إن كان فيها منفعة للناس فهي باقية إلى الأبد. فإن استحسن الناس فكرتك فلا تغريك الشهرة فتعرض لهم حياتك كنموذج فإن في ذلك مفسدة لك ولهم. فالتي لك فلأنك مهما فعلت لن تبلغ الكمال وهم سيعاملونك بانبهار وكأنك ملاك لا تخطىء وفي ذلك مفسدة لقلبك وخداع لقلوبهم وإن جاء يوم وأخطأت أمامهم فلن تفقد ملائكيتك فقط في عيونهم إنما سيصبح خطؤك "فضيحة" يتحدث فيها عامة الناس الذين سمحت أنت لهم أن يتطلعوا على حياتك الشخصية. وأما التي لهم فلأنهم سيشعرون باليأس كلما نظروا إلى تفاصيل حياتك التي شئت أم أبيت ستكون أفضل مما يمتلك الكثير منهم. فأما عرض الفكرة لهم فسيوسع قلوبهم ويثري عقولهم ويرتقي بفكرهم وهذا أفضل ما قد تقدم لهم وأما عرض حياتك فسيجعلك أنت محط نقاشهم ومقارناتهم وهذا أسوأ ما تقدم لنفسك.

 

وابتعد يا بني عن الخوض في توافه الأمور وفي أعراض الآخرين وحياتهم وعن الشتم والسب والكتابات المسيئة لأي سبب كان فكل ما تكتبه يدك سيشهدك عليك يوم القيامة وما أكثر الذين يكتبون وما أكثر الذين يخوضون في الأعراض. فلتكتب يا بني خيراً أو لتصمت.

 

وأخيراً وليس آخراً، هذا العالم الافتراضي الذي أنت جزء منه كما أنت جزء من هذا العالم الواقعي فيه الخير وفيه الشر، فأخذ منه ما ينفعك واترك منه ما يضرك وخذ منه اجازة دورية لتسمح لنفسك بالتفكر والتعمق في خبايا روحك وفي ملكوت الله فإن بكثرة الالتصاق فيه مفسدة لعمقك وتشتت لعقلك وقلبك. فأنت تقرأ خبراً محزناً تنهمر الدموع لجلله وبعده فوراً خبراً يضحكك بشدة وفي اختلاط المشاعر هذا ضرب من الانفصام والجنون! فإن أردت الحفاظ على اتزانك فاجعل علاقتك فيه متزنة ولا تجعل الإدمان عليه يسيطر على قلبك فيلهيه عن التفكر اترك الأجهزة جانبا بعضاً من يومك وتفكر.. وتفكر.. وتفكر

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.