شعار قسم مدونات

تحت ظل آية

blogs الهجرة .. جمال
"وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ"الأصلُ في البيت أنه محلُّ السكن والطمأنينة، جامعٌ لأسبابِ الخمول والراحةِ والأمان، يوحي بوجود الاستقرار وانتفاءِ دواعي النفورِ والخروج، فالبيتُ الذي تسكنُ فيه هو من حيثُ البديهة لا يحرّضُكَ على الخروج منه، بل يدعوكَ للمكوثِ والبقاء ما بقيَتْ أسبابُ السكونِ والمأمن.

 

أي إن البيتَ هنا دلالةٌ على إخلاصِ الرغبة في الخروج لله وحده، بحيث يسلخُ المهاجرُ نفسَه ويجتثها مما يجذبها إلى الأسفلِ ويُغريها بالبقاء والإخلادِ إلى الأرض، ويجادلها للقناعة بالحال، والرضا وراحةِ البال. مُنتقلا برجليه وإرادته إلى مُعسكر التعبِ والتعنّي والهم وعُلو الهمّة ووخزِ الضمير. والخروج منهُ كنايةٌ عن القطيعة المقرونة بالاقتناع وصدقِ التوجه واليقينِ بما تتوجه إليه، مع إدراكِ ما تركتَه خلفكَ مما قد يتعذرُ عليكَ الرجوع إليه وتحصيله مجددا إذا تخطيتَ عتبتَه.

 

المهاجرُ إلى المدينة ليس قاصدا محاصيلها وتمورها، ولا متعلقا بمبانيها وطبيعةِ أهلها، ولكنه مهاجرٌ طلبا للفكرة التي أتتها والرّوحِ التي حلّت بها

وذلك أعظمُ امتحانٍ في هذا الانتقالِ المحوري بشتى أشكاله واختلافِ أزمنته وحيثياته، فالهجرةُ في معناها العام الخالد هي المُهاجرَةُ إلى الموضعِ الذي يرضاه الله. لذلك ستبقى الهجرةُ ويبقى المهاجرون ما بَقيَت مَدينةٌ منوّرةٌ يجبُ أن تُشيّد بِنا، وَتُقامَ بأيدينا أو على أنقاضنا وطوب تَضحياتِنا إذا تطلّبَ الأمر ذلك، ما بَقيَت قُريش مُكذّبة مثَبِّطةً مُحاربة للنور، تنعتنا بالمجانينِ والمعاتيهِ وبائعي الوَهم والخيال.

 

ما بقيت القبائلُ ترسلُ في طلَبِنا صائدي المشاريع وخانقي الحوافِز والآمالِ والأفكار والأحلام الرضيعَة، تتبعُ آثارَ التغيير والغرابة لِتُوثِقَها باليأس والجفاف والجفاء، وتجبرَها على الاصطفاف تحت السطر والتواجد حيثُ يراد لها، لا حَيثُ ينبغي وتريد. وما دامت أصنامُ الواقعِ المُعاش جاثمةً على الصدور، منصوبةً في كل مكان، تتدلى مِنها قلائدُ الخضوع التام، تشنقُ أي ثائرٍ مُختلِفٍ شذّ عَن الطَوق.

 

"إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ".. إلى الأعلى والغايةِ المثلى

الله الذي قَدَّرَ فَهَدَىٰ، قلّدك رسالةً قُدِّرَتْ لك وقُدِّرْتَ لها، ثم هداكَ إلى مذهَبِكَ ويثرِبِك، لتكونَ ثغركَ الذي تتعبّد بلزومِه، ذلكَ أن رسائلنا تتمايز، وثغورَنا تختلف، ولكلٍ منا حَرفٌ يؤديه، ليجدَ بالمُحصّلة أنه كانَ لَبِنةً، تعلو لبِنةً، تركبُها ثالثَة، تُحاذيها أخرى، ليَبزغُ المعنى.

 

"ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ"

يدركه الفشل، تُصبه الخيبة، يغشاهُ التعَب، يتعثّر أو يُخفِق أو تخورُ قواه في منتصفِ الطريق، أو يبذل وسعه وما لديهِ من مقدرَةٍ وإضافَة، ولكن يبقى عاجزا عن الإتمام.

 

لا يُنقِصُ فشل المهاجر في الوصول شيئا من ثوابه، ولا يحتاجُ أمرُ عَدّهِ من المهاجرين إلى ضرورةِ بلوغِها، فهو مُذ تخفّفَ من جذبِ البيتِ الكبير له، وتمرّدَ على مغرياته من أجلها، قد استحق أن يكونَ من أهلِها وأهلا لها
لا يُنقِصُ فشل المهاجر في الوصول شيئا من ثوابه، ولا يحتاجُ أمرُ عَدّهِ من المهاجرين إلى ضرورةِ بلوغِها، فهو مُذ تخفّفَ من جذبِ البيتِ الكبير له، وتمرّدَ على مغرياته من أجلها، قد استحق أن يكونَ من أهلِها وأهلا لها
 
"فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ"

لَم يُهاجِر من واقِعه، مِن يأسِهم، من قعودِهم ورضوخِهم رغبةً في الهجرة ذاتِها، ولا عبادةً لِثمارها، وتعويلاً على نتائِجها وآثارها، فالمهاجرُ إلى المدينة ليس قاصدا محاصيلها وتمورها، ولا متعلقا بمبانيها وطبيعةِ أهلها، ولكنه مهاجرٌ طلبا للفكرة التي أتتها والرّوحِ التي حلّت بها، وإنما أرادها خضوعا لإرادةِ الله ابتداءً، وقرّرَ أن يُولّيَ وجههُ شطرَها طلبًا لرضاه، فبلوغها ليسَ شرطا ما دامَ قد أرى الله منهُ صِدقا في الإقبالِ عليها وتضحية في سبيلها، لا تقل عن تلك التي قدّمَها من بلغوها قبله.

 

فلا يُنقِصُ فشله في الوصول شيئا من ثوابه، ولا يحتاجُ أمرُ عَدّهِ من المهاجرين إلى ضرورةِ بلوغِها، فهو مُذ تخفّفَ من جذبِ البيتِ الكبير له، وتمرّدَ على مغرياته من أجلها، قد استحق أن يكونَ من أهلِها وأهلا لها.

 

ساعٍ للبريد يحملُ نفسَه إليها، فهو الرسالةُ والمُغلّف، عليه أن يسيرَ ويتحرك حاملا بقلبهِ همّ أن يكونَ ذا الأثر، أن يقفزَ إلى الطرفِ الآخر من المعادلة، فالإقبالُ أوّلُ القَبُول والثبَاتُ مِعوَلُ الوُصول، وكنزُالاستِخدام مَزروعٌ تَحتَ جِدارِ الإقدام، لَن يَخرُجَ منه شيء حتى يَنْضجَ اليقين والسبب وَيبلُغا أشدّهُما فَيستَخرِجَا كنزَهُما.  

 

فإذا لم يكن في جيلِ استواءِ السفينة على الجودي، كانَ في جيلِ الانطلاق والإبحارِ بها، فإن لم يكن ذلك، كانَ في جُملةِ من غاصَ في الوحلِ والأشواك لإعطائها دفعتها الأولى من عُصارَةِ روحِه، وإلا فمنَ السابقينَ الذين صَعدوا على ظهرها مؤمنين بها، ونادوا في الناسِ بالحُسنى أن اركبوا معنا، أو من القلة الذين جَمَعوا لبنائها الألواحَ والمساميرَ المتناثرة، غير آبهينَ بالسخرية والتكذيب، لسانُ حالهم؛ لكم دينكم في اللهو والضياعِ والعبثية ولنا ديننا في السعي والبناءِ والرسالية، لا تعبدونَ ما نعبد ولا نعبدُ ما تعبدون، ترونه بعيدا ونراه قريبا، وسنسخرُ منكم كما تسخرون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.