شعار قسم مدونات

تركيا تربك المعادلة الدوليّة في سوريا

blogs تركيا في سوريا

لأوّل مرّة منذ هزيمة الدولة العثمانيّة في الحرب العالميّة الأولى وتوقيع معاهدة مودروس التي أنهت بموجبها العمليّات القتالية ضدّ الحلفاء في 30 أكتوبر 1918، وخضعت فيها كليّا للشروط المهينة لقوات الحلفاء (بريطانيا وفرنسا وحلفائهم) والتي حدّدت فيها مهام قوّاتها العسكريّة في حراسة الحدود والأمن الداخلي، تُقدم تركيا على تنفيذ عمل عسكري خارج حدودها، في عمق الصراع الجيوستراتيجي العالمي الذي يجري على الأراضي السوريّة.

 

تمّ ذلك يوم 20 يناير/كانون الثاني 2018 بانطلاق حملتها العسكريّة "غصن الزيتون" في الشمال السوري، معلنة في الآن نفسه عن أهدافها التي نلخّصها في ما يلي:

أوّلا: ضرب المخلب الوظيفي المتمثّل في ألوية "وحدات حماية الشعب الكردي" (الذراع العسكري لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردي الموالي لحزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا) والذي جنّدته قوى دوليّة تستهدف الأمن القومي التركي انطلاقا من الأراضي السوريّة، وذلك ابتداء من عفرين مرورا بمدينة منبج ووصولا إلى الحدود العراقيّة.

ثانيا: عودة 3.5 مليون لاجئ سوري إلى بلادهم.

 

لم تنتظر تركيا كثيرا لتبني على الشيء مقتضاه وتعيد رسم استراتيجيتها في الإقليم ببناء تحالفات جديدة من خارج حلف النيتو، كان أبرزها سلسلة المفاهمات مع روسيا وإيران

حدث استثنائي يشير إلى أنّ تركيا الحديثة بدأت تنفرد بقرارها المستقلّ عن الحلف الأطلسي في مسائل الحرب والسلم، وتتحسّس مكانتها في الساحة الدوليّة.. حدث سيقلب موازين القوى بين الفصائل في الداخل السوري لصالح الجيش السوري الحرّ، وسيفرض معادلة إقليميّة جديدة على مختلف المتصارعين الدوليّين في الساحة السوريّة. حدث سيكون له ما بعده في قادم الأيّام، فعمليّا انتفت الدولة في سوريا، وبات المجال السوري ساحة لصراع مكشوف بين قوى محليّة وإقليمية وعالميّة.. حالة أفرزها صراع يوشك أن يتطوّر من نزاع مسلّح عبر وسطاء إلى مواجهة مباشرة مفتوحة بين مختلف المتدخّلين.

 

حدث خلق أمرا واقعا جديدا وقفت عنده باقي القوى المتدخلة في الشأن السوري لتستخلص منه العبر، حيث سارعت روسيا بسحب مراقبيها العسكريين من منطقة عفرين اجتنابا لأيّ اشتباك بين قوّاتهما. من جهة أخرى، عبّرت إدارة الحلف الأطلسي ببروكسيل عن تفهّمها للموقف التركي، بينما انكفأت الإدارة الأمريكيّة على نفسها مكتفية بمتابعة الأحداث ومندّدة بالموقف الروسي، خاصّة بعدما تناهت إليها تصريحات المسؤولين الروس الذين حمّلوا إدارة ترمب سوء تدبيرها، وتعجّلها في عمليّة التقسيم على أساس عرقي وطائفي للدولة السوريّة، وذلك عبر دعمها وتسليحها لجيش كردي قوامه 30 ألف عنصر، ما اعتبرته تركيا تهديدا مباشرا لأمنها القومي.

 

وتندرج السياسة العدوانيّة للإدارة الأمريكيّة تجاه تركيا ضمن خطّ سير متواصل مثّلت المحاولة الإنقلابية الفاشلة التي قام بها تنظيم فتح الله غولن (زعيم الدولة العميقة في تركيا) بتواطؤ أمريكي -غير معلن- على القيادة التركيّة في صائفة 2016 إحدى محطّاته. ثمّ تأتي مخطّطاتهم الأخيرة بزرع جيش من مرتزقة أكراد (وحدات حماية الشعب الكردي) وغيرهم (قوات سوريا الديمقراطية، قسد)، والتي سخّرت لهم قوات خاصّة أمريكية بالمنطقة لتدريبهم وتأطيرهم، تحت شعار محاربة تنظيم الدولة "داعش"، بمثابة القشّة التي قسمت ظهر البعير. إضافة إلى ما انجرّ عن هذا الانتشار الأمريكي بالشمال السوري والذي ساهم في إذكاء سياسة التطهير العرقي التي انتهجتها الميليشيات الكرديّة (قوات وحدات حماية الشعب) كجزء من خطّة ربط مقاطعات الجزيرة وكوباني (عين العرب) في إقليم واحد.

 

نرى اليوم تركيا -في خضمّ هذه التحوّلات العميقة- في المنطقة تدفع بجيشها إلى العمق السوري لصدّ الأخطار التي تهدّد خاصرتها الجنوبية
نرى اليوم تركيا -في خضمّ هذه التحوّلات العميقة- في المنطقة تدفع بجيشها إلى العمق السوري لصدّ الأخطار التي تهدّد خاصرتها الجنوبية
  
شكّل كلّ هذا تهديدا مباشرا للخاصرة الجنوبية الشرقيّة لتركيا ولأمنها الداخلي، وذلك بتأليب الأكراد داخل تركيا ضدّ نظام الحكم في أنقرة لإلهائه في صراعات داخليّة لا تنتهي، بهدف تحييد الدولة التركيّة وتهميش دورها في القسمة الجديدة المعدّة للمنطقة العربيّة والتي يستحوذ فيها كيان العدوّ الصهيوني على النصيب الأكبر.

لم تنتظر تركيا كثيرا لتبني على الشيء مقتضاه وتعيد رسم استراتيجيتها في الإقليم ببناء تحالفات جديدة من خارج حلف النيتو، كان أبرزها سلسلة المفاهمات مع روسيا وإيران، إضافة إلى فتح قواعد عسكريّة لها على ضفاف الخليج العربي بقطر وبجزيرة سواكن شمال شرق السودان، على الساحل الغربي للبحر الأحمر.

 

لذلك نرى اليوم تركيا -في خضمّ هذه التحوّلات العميقة- في المنطقة تدفع بجيشها إلى العمق السوري لصدّ الأخطار التي تهدّد خاصرتها الجنوبية، وفي الآن نفسه تحرص على إعادة ملايين اللاجئين السوريين (ذوي الغالبية السنيّة) إلى ديارهم كجزء من أهداف المعركة التي استهدفت التركيبة السكانيّة في سوريا، والتي عمل عليها -على مدى الأعوام الأخيرة- الأمريكان والإسرائيليّون من جهة، والروس والإيرانيّون حليفي النظام العلوي، من جهة أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.