شعار قسم مدونات

لماذا قبلت العلمانية؟

blogs - شارع

لو كتبت هذا المقال قبل بضعة سنوات من الآن لكنت عنونته؛ لماذا رفضت العلمانية؟ ولكنت من الكثيرين الذين يرفعون أصواتهم عالية لسب العلمانية ورميها بأشنع الصفات والاتهامات دون أدنى محاولة فهمٍ لما يعنيه هذا المصلح أو مناقشة لإمكانية كونه ذا صلاحية وقابلية للتطبيق، ناهيك عن التفكير في كونه سبيلا للنهوض والرقي، لحسن حظي لم أتهم العلمانية ولم أحاول أن أحشر رأسي في الرمال، لكني تراجعت للوراء قليلا ودخلت في تفكير وصراع، ذهابا وإيابا، قبولا ورفضا، محاولا فهم هذا المصطلح وسبر أغوار الحياة في الدول التي تبنت هذا النظام. أمور كثيرة كانت وراء كتابة هذه التدوينة، لكن السبب الرئيسي الذي قادني بل أجبرني على إعادة النظر في مفهوم العلمانية، هو هجرتي منذ سنتين من المغرب لإتمام دراستي بفرنسا، هذه الدولة التي تُعرف بنظامها العلماني الشرس.

سنتان وبضعة أشهر بالضبط، حوارات كثيرة، نقاشات مع فرنسيين، مع أجانب، قراءات عن العلمانية، فيديوهات كثيرة، كل هذا جرني اليوم لخط هذه الحروف، لأعبر بها عن رأيي في العلمانية. أن تركب قطار أنفاق في بلد ما أمر اعتيادي وربما عادي جدا بالنسبة لأي شخص في العالم، لكنه لم يكن عاديا بالنسبة لي على الإطلاق عندما ركبته للمرة الأولى برفقة صديقي الهندوسي في باريس. عجبت من جلوسي بجانب يهودي، كان شيئا لم أعتد عليه من قبل في حياتي، لكن ليس هذا هو المثير في الأمر، ما أدهشني هو كمية التنوع في المذاهب والديانات والجنسيات التي تحتويها هذه المقطورة الصغيرة، أدرت رأسي قليلا فلمحت شخصا رجّحت أنه مسلم مثلي، وبجانبه فرنسي مسيحي أو كاثوليكي لست متأكدا. كل هذا التناقض والاختلاف في الهويات والمعتقدات لم يمنع أن يعيش كل هؤلاء في سلم وحب وتسامح.. أمر أزعجني كثيرا فبدأت بطرح تساؤلات لا متناهية: كيف؟ لماذا؟

أعتقد أنني الآن أملك جوابا لكل هذه الأسئلة، وهو عبارة عن كلمة واحدة هي "العلمانية ". بعد سنوات من الحروب والنزاعات الطائفية والدينية التي أسالت الكثير من حمامات الدماء في فرنسا، وراح ضحيتها آلاف الأبرياء، رأت فرنسا بأن العلمانية هي السبيل الوحيد لتخطي هذه المشاكل والنزاعات، وبالفعل منذ أن بدأت في تطبيقها، وبعد سنوات عدة، صرنا نرى فرنسا كما هي الآن، سيدة أوروبا ودولة متقدمة علميا وتقنيا واقتصاديا.. إلخ. إننا نعيش عصرا مشابها لما عاشته فرنسا منذ عقود، نعاني ما لا يحصى من الحروب الطائفية والدينية في عدة مناطق بسبب التعصب المذهبي والديني، وفي أحيان كثيرة رغبة في الوصول إلى الحكم، الهدف غير المعلن الذي تلهث وراءه الكثير من الفرق والطوائف.

إذا أردنا ضرب أمثلة أخرى عن الدول العلمانية فيكفي أن ننظر إلى تركيا التي صارت تزاحم كبريات الدول في التربع على الاقتصاد العالمي ومجالات التعليم والتقنية
إذا أردنا ضرب أمثلة أخرى عن الدول العلمانية فيكفي أن ننظر إلى تركيا التي صارت تزاحم كبريات الدول في التربع على الاقتصاد العالمي ومجالات التعليم والتقنية
 

لذلك فأنا أرى أن العلمانية هي السبيل الذي، كما في فرنسا ودول علمانية عدة، يستطيع ضمان حرية الجميع في ممارسة ما يعتقدون من أفكار بكل سلم دون تعارض مع الآخر، وبه يمكن أن تحقن الدماء التي تروح ضحية النزاعات الدينية. ومما لا شك فيه أن الاختلاف في المعتقدات والمذاهب والآراء طبيعة إنسانية وإرادة تفرض نفسها وسنة كونية لا مفر منها، لكن بدل إرادة تطبيق مذهب أو دين أو فكر واحد على الجميع، مما ينشب عنه نزاعات لا متناهية وحمامات دماء دائمة، ينبغي التفكير في حل آخر يضمن حرية الجميع وتعايشهم مع بعضهم البعض. إلى جانب هذا، أعتقد أن الوسيلة الأكثر مساهمة في تعميق مفهوم الحرية وترسيخ معناه لدى الأفراد هي العلمانية؛ لأنها ببساطة نظام يتأسس على مبدأ حرية الأفراد في معتقداتهم وشؤونهم الخاصة وطبعا دون مس أو إضرار بحرية أي شخص آخر.

ومن هنا فإن معتقدا ما يصبح، إن اعتنقه المرء، أكثر مصداقية وقوة، إذ إن اختياره لهذا المعتقد نابع من إرادة شخصية وقناعة تامة دون رضوخ لأي جبر مجتمعي أو توجيه عرفي كالذي يحدث في الكثير من الدول العربية، حيث مثلا يتم اتباع الدين بسبب التقاليد والموروثات مما يؤدي إلى وازع ديني هش يتزعزع عند أضعف مناسبة، لهذا السبب نجد أنه في البلدان الغربية يكون إيمان الشخص قويا راسخا مبنيا على قناعة ذاتية وبحث وتحقيق.. بعبارة أخرى، ما أريده قوله هو أن العلمانية تؤسس للحرية، وبالتالي إيمان أكثر قوة وأصالة.. أليس الدين والوجود الإنساني أصلا مبنيان على حرية الاختيار؟

من الأسباب التي تجرنا كذلك للتفكير بجدية في العلمانية، ظهور فئات جديدة يوما بعد آخر تطالب بمجموعة من الحريات في ظل ما يفرض عليها من قمع ومحاربة لمعتقداتها المختلفة المنافية للنظام السائد. السؤال الذي يطرح في هذه الحالة هو؛ هل سيتم الاستمرار في نبذهم ومحاربتهم؟ وإلى متى؟ وثم هل هذه المحاربة والقمع سيغير من معتقداتهم؟ وهل سيؤدي إلى التعايش في سلم وتسامح؟ لا أعتقد ذلك. طوال حديثي عن العلمانية أخذت فرنسا كنموذج لدولة طبقتها، رغم أني لست متفقا مع الكثير من الأشياء بخصوص هذا التطبيق، خاصة معاداتها الشرسة للدين وبالأخص الإسلام، حيث إنها علمانية أقرب إلى المادية الصرفة التي تغيب الجانب الروحي للإنسان، أما السبب الذي دعاني لأخذ فرنسا كمثال هو أنني أعيش فيها مما يخول لي الحديث عنها ويمنحني مصداقية أكثر.

أما إذا أردنا ضرب أمثلة أخرى فيكفي أن ننظر إلى تركيا، الدولة العلمانية التي صارت تزاحم كبريات الدول في التربع على الاقتصاد العالمي ومجالات التعليم والتقنية.. إلخ. أريد أن أختم تدوينتي هذه بالحديث عن الأشخاص الذين لا يزالون يحلمون بإعادة الخلافة وتطبيق الدولة الدينية، فيما يخص هذا الأمر، أرى أنه من المستحيل في الوقت الراهن أن يصبح هذا الحلم حقيقة بالمفهوم الذي يرونه هم، أي جبر الناس على اعتناق الإسلام ومعاقبة المخالفين له، إذ إن المجتمع يحوي الكثير من الفئات المسيحية، اليهودية، الملحدة، ومعتقدات أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.