شعار قسم مدونات

سوريا.. الصرخة المكتومة

Blogs- syrian woman
عن القهر والأسى.. عن الوجع والاختناق.. عن الألم حد الهذيان والبكاء حد الفاجعة والحزن حد الإعياء.. عن الصرخات المكتومة والأوجاع المكبوتة.. عن الدموع الحارة والروح المنهكة والقلوب المنطفئة.. عن الاستبداد في أوحش صوره والاستعباد في أقوى أشكاله والحيوانية في أجلى مظاهرها والوحشية المنسلخة عن كل إنسانية في أوضح معالمها.. عن السجون  السوداء والليالي المشؤومة.
 
عن كل آلام البشر التي تجمعت في مكان واحد يسمى "أقبية النظام"، عن كل ذلك وأكثر كان هناك  "سوريا الصرخة المكتومة"، فيلم وثائقي يعري نظاما تعرى من كل إنسانية وانسلخ عن كل قيمة وأسقط ورقة التوت الأخيرة التي عرى بها سوءته طويلا.. أثبت الفيلم أن الوحشية البشرية ليست بالضرورة أن تتمثل في غضب عارم أو نزوة عابرة.. بل قد تكون روتينا يوميا يمارسه الإنسان بشكل طبيعي جدا ككل زبانية الأسد.
 
ويظهر الفيلم كيف تحولت أجساد النساء في سوريا إلى سلاح تستخدمه قوات النظام بشكل واسع وكبير وبطريقة قذرة ممنهجة.. تقول إحدى اللاتي ظهرهن في الفيلم وكانت تخدم في جيش النظام "لقد استخدم النظام الاغتصاب، وخطط له لتحطيم الرجل السوري" أرادوا بها إذلال الثائر العربي، كانوا يعلمون ماذا تعني المرأة بالنسبة للعربي وأنها تمثل العرض والشرف والكرامة.
 
وبعد أن خرجت كثير من المغتصبات من السجن من منهن ستنسى وأي ذاكرة ستسعفهن؟ ما زلت تقرأ في عيونهم لسع السياط على أجسادهم والكهرباء التي اخترقت رؤوسهم.. سيتذكرون بقع الدم التي ما زالت قابعة على الحائط كشاهد على الجريمة الكاملة.. وتلك الأصوات البشرية والاستغاثات الإنسانية التي ما زال صداها يتردد في أذناها.. ولن ينسين تلك الأيادي القذرة التي امتدت لتلك الأجساد الطاهرة والتي لم يكن لها من ذنب سوى أنها صدحت بالحرية.. صدحن بحقوقهم.. وتناسين أنهن يعشن في أنظمة حولت حياة البشر إلى جحيم.. أنظمة حولت حقوقهم لأحلام.. وأتقنت فن الموت، فالأنظمة العربية تقدم لك "كاتالوج" الموت الجاهز أو المتأخر وتعطيك طرقا مختلفة من الموت  تختارها بنفسك.
 
كم يسرق الطغيان عمر الأمة، إنه يسرق عمر شبابها في جدران المعتقل، ويسرق أوقات أهلهم وذويهم وهم يعدون الأيام والليالي في انتظار عودة أولئك الغائبين
كم يسرق الطغيان عمر الأمة، إنه يسرق عمر شبابها في جدران المعتقل، ويسرق أوقات أهلهم وذويهم وهم يعدون الأيام والليالي في انتظار عودة أولئك الغائبين
 

فمن لم يمت حرقا أو قتلا أو تعذيبا.. بإمكانه أن يموت جوعا أو ظلما أو قهرا وتشريدا.. كما ماتت كثير منهن وانتحرن جراء الاعتراض على شرفهن وكرامتهن.. وما بين ظلم النظام وتخلف المجتمع العربي كانت تعيش المرأة السورية، فالمرأة السورية التي تعرضت للاغتصاب تصبح عارا للعائلة، وإذا نجت من التعذيب وخرجت من السجون حية، فإنها إما تطرد من قبل عائلتها، أو ببساطة.. تقتل! كما جاء على لسان بعضهن.. ولذا كانت المعتقلة تدعو كل من تذهب ليهتك عرضها أن يقتلها.. لعلمها أنها لو خرجت حية فإنها ستنتقل من السجن الصغير إلى سجن لا يقل قهرا عن السجن الأول.

 
إن النظام بكل اغتصاب كان يمارسه على كل طاهرة لم يكن اغتصابا لفرد أو عائلة، بل كان اغتصابا لمجتمع بأكمله، ولم يكن يعذب فردا بل يعذب معه وطنا بأكمله، ذاك الرأس الذي قطع كان من الممكن أن يكون في يوم من الأيام عقلا مدبرا في مجال البحث العلمي، يفكر في مجالات الحياة، فإذا به يتكور ليغدوَ أقصى تفكيره أن يخرج من هذا العالم المظلم، وتلك الحنجرة كان من الممكن أن تصدح بالكلمات والأشعار والآثار التي تتغنى بالدِّين والأمة والوطن، فإذا بتلك الحنجرة الذهبية تنقلب من الذهب للصدأ لتدوي صرخات إنسانية واستغاثات بشرية تطلب الموت من الجلاد!! وتلك الأذنان بدل أن تسمع هدير الأنهار وزقزقة العصفور وصباح وفيروز، ها هي اليوم تسمع أنين المعذب وهو يطلب الموت فتهب له الحياة!!
 
كم يسرق الطغيان عمر الأمة.. إنه يسرق عمر شبابها في جدران المعتقل، ويسرق أوقات أهلهم وذويهم وهم يعدون الأيام والليالي في انتظار عودة أولئك الغائبين، ثم يلتهم عيون أمهاتهم عندما يودع النور تلك  الجفون بعد بكاء مرير، أملا في عودة ذاك المفقود، ولتذهب تلك العينان فرائحة أنفها الزكية ما زالت قادرة أن تشتم رائحة جسده النحيل!!
 

مزيد من الأبطال وكثير من الرموز والقادة تفتخر بهم الأجيال وتتغنى بهم.. ومتابعة للمسيرة التي ابتدأها أولئك المضطهدون
مزيد من الأبطال وكثير من الرموز والقادة تفتخر بهم الأجيال وتتغنى بهم.. ومتابعة للمسيرة التي ابتدأها أولئك المضطهدون
 

واليوم وبعد هذا الفيلم المروع فإن اعتبروا عهد التميمي هي أيقونة نضال.. فإن المرأة السورية التي رفصت أن تخرج من تحت الأنقاض هي رمز الشرف.. والفتاة السورية التي اغتصبت لأنها قالت للظالم لا، هي رمز العفة والطهارة.. وآلاف الحرائر وما أكثرهن اللائي لم يثن العذاب عزمهن عن قول لا للظالم، هن رمز لكل نضال وأيقونة كل ثورة وهن ملهمات كل الحرائر في العالم.. أما كل هذا الاضطهاد عبر سنوات فليس صعبا أبدا على هذا النظام أو غيره.. ليس صعبا على من كان بيده السلطة والقضاء أن ينفي أعداءه باسم القانون، أن يلقي بهم في غياهب السجن.. أو في ظلمات الجب أو في القبور المظلمة.. ليس صعبا على الإطلاق أن يعتقل تلك الأجساد ويلقي بها تحت الأرض..
لكن من الصعب ومن الصعب جدا أن يحول بينهم وبين ازدياد أتباعهم. 

 
لم يدرك أولئك الأغبياء حتى اليوم أنهم بغبائهم يسهمون في نشر الحق وإحيائه عبر اضطهاد أهله.. لقد  مارس أكابر المجرمين هذا اﻷسلوب الأحمق في كل العصور ثم ماذا كان بعدها ؟؟! مزيد من الأبطال وكثير من الرموز والقادة تفتخر بهم الأجيال وتتغنى بهم.. ومتابعة للمسيرة التي ابتدأها أولئك المضطهدون.
  
ثم يتم بعدها تعرية الباطل وإظهار سوءته ويظهر للغافلين حجم الكذب والزور والقبح الذي يتلبس به المبطلون، يكتشفون كم كانوا يتلبسون بقيم جوفاء وعواء فارغ.. حينها تدرك الشعوب أن تلك القيم ليست سوى شعارات للاستهلاك المحلي يقتاتون منها دماء الشعوب وينهشون بها لحمهم.. ولا شك أن تعرية الباطل مكسب لأهل الحق يضاف لرصيدهم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.