شعار قسم مدونات

أن أصحب أسدا خير من عشرين كلبا

blogs مجتمع

الكيف والكم مصطلحان بسيطان يشرحان نفسيهما، يندُر اجتماعهما سوية في الحياة أو يُعدم، تجدهما متجاذبين بين السطور، متنافرين بكل الأمور. يتراهن الكم قائلا: أنا أتفوق عليك أيها الكيف، فأنا وتسعة آخرون نبرحك ضربا وننال منك؛ فأنت واحد ونحن عشرة. فيجيبه الكيف مُزايدا في الرهان: على كثرتكم فإنكم تطيحون أرضا بعد دقيقة واحدة من القتال؛ فأنتم مجتمعين لا تملكون القوة التي مُنحت لي.

ذلك باختصار معنى الكيف والكم، والصراع السابق متواصل دائما بـ"الفوز الخاسر" للكم رغم ضعفه وخداعه لعقول بشرية كبيرة لم تلتفت لمكره إلا بعد هزيمة أو خسارة أو ضعف تُخرج العقل من حالة اللاوعي التي تسكنه إلى حالة من الوعي يبصر بها القوة التي زرعها الله في الكيف وهي مصدر يكفل له الفوز والربح، ولا أستثني مجالا يُذكر إلا ويقوى بالكيف ويترهّل بالكم.

 

حينما نقرأ كم بلغ عدد المسلمين في شتى الغزوات والتفوق الكمي السافر الذي تمتع به أعداؤهم، نعرف أن التفوق الكيفي عند المسلمين هو ما مكَّنَهم ونصرهم لعلكم تعقلون

لكن الإنسان بفطرته ينحاز للكم إذا لم يتروّ ويعُد للألف بدل العشرة عند اتخاذ قرار، فالأعداد دائما ما تستهوي عقل الإنسان وتخدعه، فما الفائدة المرجوّة من الكم إذا لم يتوفر فيه الدرجة القياسية أو المعقولة من الكيف؟ وكذلك الأمر بالنسبة للكيف؛ فلا قيمة له إذا لم يحظ بدرجة مناسبة من الكم.. ولكن الكيف هو مبدأ متجه إلى الذوبان والانحلال من فرطِ إهماله، وهذا هو مكمن الخطر!

إذا ذهبنا إلى معظم الجماعات والمجموعات "إسلامية كانت أو يسارية.." تجدها تعمل على المبدأ الكمي بشكل أكبر، فما تسعى إليه "من غير قصد" أن تزيد من عدد أفرادها وأتباعها بدلا من أن تسعى إلى بناء الفرد الواحد بشكل محكم، وهذا ما يمكن أن يبدد الجماعات ويفت في عضدها. فلو أنهم قاموا بزرع أغصان قوية للجذع الذي يعملون عليه، لخرجت من هذه الأغصان أغصان كُثر تمتلك القوة ذاتها، إلى أن تُثمر ثمارا لا يتبدد طعمها بسهولة. فعوضا عن ترسيخ الفكر والعقيدة الصحيحة لهذه الجماعة في مئة رجل مثلا، تسعى إلى تلقين هذا الفكر لألف، وشتان بين فكر راسخ وآخر يمكث على أطراف اللسان.

وذلك الكلام ينطبق كذلك على الجيوش في الحروب، فهل أفاخر بألف جندي وهم مذبذبين أم مئة جندي وهم مُحْكَمين؟ ألم نقرأ كم بلغ عدد المسلمين في شتى الغزوات والتفوق الكمي السافر الذي تمتع به أعداؤهم؟ ولكن التفوق الكيفي عند المسلمين هو ما مكَّنَهم ونصرهم لعلكم تعقلون.

ألم نسمع قوله تعالى في سورة الأنفال (إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ). وقس على ذلك يا من امتلكت منصبا ومقعدا تقرر فيه الكيف أم الكم، دعونا نحاول الاستغناء عمن ليس فيه نفع سوى أنه "زائد واحد"، تلك الأعداد المهولة التي تُقتل بادئ ذي بدء في المعارك، عندما تُدَق طبول بدء الهجوم بعد أول رمية رمح أو صلية مدفع، تماما كما نرى في الأفلام السينمائية، يجب أن نحرص بأن لا يموت أحد في المعركة، أن لا يَقرَب أحد منهم أرض النزال فهو عبء على الجنود الأشاوس!

لا تنتفي منافع الكيف وعلوها على الكم في كل مناحي الحياة، كقراءة القرآن، فمن قرأ وردا والتقط منه شيئا ليس كمن قرأ جزءا ولم تثمر قراءته شيئا
لا تنتفي منافع الكيف وعلوها على الكم في كل مناحي الحياة، كقراءة القرآن، فمن قرأ وردا والتقط منه شيئا ليس كمن قرأ جزءا ولم تثمر قراءته شيئا
 

ألم يبلغك كيف انهزمت روسيا عام ١٩٩٦ وانسحبت من الشيشان في حرب قوية كانت روسيا تمتلك آنذاك العدة والعتاد الكمي؛ فقد كان لديها ثلاثة ملايين جندي إضافة إلى الأسلحة والمساندة الجوية، ومع ذلك هُزمت وأعلنت الشيشان انفصالها عن روسيا. ولكن الأمر لم يقف عند ذلك الحد، فقد قامت روسيا بإعادة هيكلة الجيش وتطويره بالاستغناء عن مبدأ الكم الذي لم يجلب إلا الخسارة واستعاضت عنه بمبدأ الكيف، بل وتلذذت بمنافع هذا المبدأ، فقامت بتصفية جنود الجيش وتنقيتهم كما تنتقي الفواكه لزوجتك، حتى بلغ عددهم نحوا من مليون ونصف المليون فقط! فعادت وغزت الشيشان عام ١٩٩٩، وكانت النتيجة عودة الأخيرة إلى الحظيرة الروسية، وبذلك تأتَّت ثمار الكيف.

ولا تنتفي منافع الكيف وعلوها على الكم في كل مناحي الحياة، كقراءة القرآن، فمن قرأ وردا والتقط منه شيئا ليس كمن قرأ جزءا ولم تثمر قراءته شيئا.. وكثيرة هي الأمثلة التي تخدم هذا الموضوع لكن يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

في النهاية، إذا اجتمع الكيف مع الكم في موضع فإننا قد نصل بهذا الموضع إلى المثالية، ولأن المثالية لا وجود لها؛ فإننا نسعى لنوازن ونعد للألف عند إقرارنا لعلو أحدهما على الآخر.

الكيف: أعتقد بأنني أفحمتك وفزت بالرهان! 
الكم: أظن ذلك، لكن ما فائدة النور إذا غابت العقول؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.