شعار قسم مدونات

جدلية التحكم الاجتماعي من خلال القانون

blogs قاعة محكمة
فلسفة القانون في العصر الحديث وصلته بالسلم والعدالة الاجتماعية تشبه فلسفة السياسة في علاقتها بالحرب، ذلك أن المناط الجوهري للفلسفة السياسية يقابله تسييج قوى السلطة وشرعنتها وتحديد حدودها ودفع مخاطر اغتصابها، أما فلسفة القانون فإنها تندرج ضمن البحث المشترك عن شروط التوزيع المنصف لخيرات الدولة وتحمل أعباءها وضبط وسائل تقنين قوة السلطة من أجل خدمة القانون والصالح العام.
وبالرجوع إلى التحديد المفاهيمي والغائي لقاعدة القانون بحد ذاته، نجده منشأة اجتماعية، هدفه الأساسي يكمن في التنظيم والتنسيق بين الجهود الاجتماعية والفردية، أو حل النزاعات الاجتماعية والفردية، أو تأمين تحقيق العدالة بين المواطنين من ناحية، وبينهم وبين حكوماتهم من ناحية أخرى، وذلك على نحو يكرس لثقافة المساواة والعدالة والتكامل بين القانون والمجتمع بمختلف أنساقه.

وإذا كان العقد الاجتماعي ينبني على فكرة الترابط والتعايش بين الأفراد كمواطنين وبين الدولة كطرف ذات سيادة ومؤسسة راعية للحقوق وضامنة لها، فإن الإطار المنظم لهذه الحقوق والذي ينعت بالقانون أو التشريع، غالبا ما يخرج عن فكرة التعاقد والتلاقح المتبادل في الواجبات والحقوق التي تنصهر وتضمحل نتيجة تسلط الجماعة الأديولوجية وتحكمها باسم القانون.

ومن هذا المنظور، قد نرى أن فكرة القانون أنثروبولوجياً ليست أحيانا بالفكرة الأصيلة والراسخة في قلب العدالة المنشودة، بل قد تتزعزع هذه الفكرة كلما عصفت بها رياح التحكم الاجتماعي المدبر، بحيث تصبح الحقوق داخل المجتمع الفوضوي الهش معاقل للفردية الأنانية لأصحابها على حساب مصالح المجتمع والطبقات المسحوقة والصالح العام.

فضل لورنس روزين عالم أميركي متخصص في أنتروبولوجبا القانون، مراقبة الأحداث التي تطرأ في أروقة وقاعات المحاكم، بوصفها أحداثا أتثروبولوجية كاشفة لفكرة انفصال القانون أو انعزاله عن الواقع المعاش
فضل لورنس روزين عالم أميركي متخصص في أنتروبولوجبا القانون، مراقبة الأحداث التي تطرأ في أروقة وقاعات المحاكم، بوصفها أحداثا أتثروبولوجية كاشفة لفكرة انفصال القانون أو انعزاله عن الواقع المعاش

وهذا الانحراف من شأنه أن يختبر العلاقة الجدلية بين القانون والمجتمع البشري الذي يؤطره، ذلك أن المنطق يقتضي أن أي قاعدة كيفما كانت لا تصبح قاعدة قانونية إلا إذا اقتنعت مجموع الإرادات الواعية للأفراد بأهميتها وضرورتها للحفاظ على التضامن والتلاقح الإجتماعي، وهذا التضامن الجماعي المنشود هو الذي يشكل أساس القانون في المجتمعات الديمقراطية، ويفرض نفسه على الدولة ذاتها، ودور هذه الأخيرة يكمن ليس في خلق القانون بل في الترجمة العملية والفعلية للتضامن الاجتماعي ومناهضة التحكم الطبقي المعياري.

القانون يغير المجتمع مثلما أن المجتمع يغير بدوره القانون، بحيث تكون الغاية النهائية من كل هذا هي تحقيق شكل من أشكال الإصلاح الإجتماعي أي جعل المجتمع أكثر عدلا وإنصافا

وفي السياق ذاته، يبدو أن النظرة الأنثروبولوجية إلى القانون قد تحركت مبتعدة صوب الاتجاه المناقض، فاكتفت بمراقبة القانون بدلا من دراسته واختباره، والأداة الرئيسية في هذا التوجه هي الدراسة الميدانية التي دفعت لورنس روزين "عالم أميركي متخصص في أنتروبولوجبا القانون" إلى الجلوس في قاعة المحكمة ببلدة صغيرة في منطقة جبال الأطلس بالمغرب مفضلا بذلك مراقبة الأحداث التي تطرأ في أروقة وقاعات المحاكم، بوصفها أحداثا أتثروبولوجية كاشفة لفكرة انفصال القانون أو انعزاله عن الواقع المعاش حينما لمس حالة القاضي الذي يجعل من النص القانوني غايته الوحيدة، دون أن يسعى للتطلع أكثر إلى الأهداف الاجتماعية المتأصلة التي تكمن وراء هذا النص.

فحينما يضع القانون مقتضيات وبنود امتيازية لطبقة اجتماعية دون الأخرى إما بصيغة مباشرة أو ضمنية فهو ينم عن قصد مسبق لإرادة براغماتية لهذا الشارع الإنسان إما دفاعا عن جماعة متحكمة، أو تحقيقا لغايات تتعارض مع خاصية الوضعانية السوسيولوجية، كتقييد قاعدة التهرب الضريبي وتكبيلها لصالح جماعة سياسية مثلا أو تمرير قانون ضريبي امتيازي في قطاع ما دون الأخر بناء على منطق التحكم الذي يتخذ القانون آلية لتجسيد فكرة القوة بعيدا عن فكرة العدل والمساواة.

وأمام هذا التصور، تصير الظاهرة القانونية في إطار هذا النظام التحكمي الغوغائي ترتبط عضويا بالبنية الاقتصادية الضيقة دون أي مقاربة اجتماعية مدنية تشاركية، حيث تضغط الجماعات الكبرى وتكرس الغلبة على الجماعات الصغرى بدريعة القانون للحفاظ على امتيازاتها وسيطرتها الديناميكية، وهذا ما بسطه قول "جوليان فروند" في كتابه "القانون اليوم" والذي جاء فيه: "قانونكم ما هو إلا إرادة طبقتكم تحولت إلى تشريع، إرادة مضمونها محدد بالظروف المادية لحياة طبقتكم".

نافلة القول، إن القانون يغير المجتمع مثلما أن المجتمع يغير بدوره القانون، بحيث تكون الغاية النهائية من كل هذا هي تحقيق شكل من أشكال الإصلاح الاجتماعي أي جعل المجتمع أكثر عدلا وإنصافا وتماسكا دون انقسام وتحكم. إذ لا يمكن للمشرع أن يضع قانونا ملائما لحاجيات الأفراد والمجتمع دون معرفة وتشخيص هذا المجتمع وتطلعاته وفوارقه، ولا يتأتى ذلك إلا من خلال هندسة القانون باستحضار وازع الأخلاق والدين والضمير سواء قبل صياغة التشريع أو بعد تنزيله وتفعيله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.