شعار قسم مدونات

رحلة التأمل.. ما وراء الدنيا

blogs - سماء البحث عن الله
التأمل في كل الأشياء المحيطة بنا وما خلق الله بين السماء والأرض، يدعونا إلى مزيد من التأمل والتفرس فيها أكثر، بل ويؤكد لنا يوما بعد يوم أن حقيقة الأشياء ليست كما تبدو عليه، فشتان بين ظاهر وباطن. والدنيا من هذه الزاوية لا تخرج كثيرا عن هذا الزوج المفهومي، وذلك ما نلحظه مبثوثا سواء في الآيات القرآنية أو السنة النبوية. فالإسلام بمصدريه التأسيسيين يدعو إلى عدم الاغترار بزخرف الدنيا فضلا عن التعلق بها، ويؤكد على ضرورة التجاوز لظاهر الحياة الدنيا ليتسنى للمسلم الوقوف على حقيقتها، فيعطيها قدرها ولا يخطئ حجمها. ولكن قبل أن نعرض بعض ما يؤيد هذه الفكرة، لا بد أن نعرف ما المقصود بالدنيا أولا، ثم لننتقل تدريجيا إلى ما وراء الدنيا بمعنى أن نتناول هذه الكلمة بين وحي الشكل ونطق المضمون.
ومن المهم القول إن المظهر لا يعد عنوان الجوهر في كثير من الأحيان، لأنه محل للحوادث والتغيرات، ولذلك فهو عرضي غير ثابت، بل إن العمدة في البحث عن الحقائق لا تكتفي بملاحظة المظاهر والأشكال فحسب، وإنما تعمل على سبر المضامين والجواهر تفكيكا وتحليلا. فما ننفذ إليه وراء القشور غالبا ما يكون الحق، إذ يعبر عن ماهية الشيء وأصله لأن المظهر كما قلنا لا يسلم من التضخيم والتزيين، فيعطي وهما ويرسم خيالا بعد ما نقص من اليقين حقيقة وجمالا. ولكن ما معنى الدنيا؟

مآل هذه الدنيا إلى انتهاء وزوال، هذه الحقيقة التي يجب تفعيلها ومعاملة الدنيا وفقها، فلا يشدك ظاهرها ولا يخدعنك وكن في الدنيا غريبا أو عابر سبيل

يفيد لفظ الدنيا في لسان العرب معنى الدنو والقرب، والدنيا ضد الآخرة لدنوها ولذلك أضيفت إلى السماء لقربها من ساكني الأرض، فالسماء الدنيا هي الأقرب إلى سطح الأرض مقارنة بباقي السماوات السبع. ومن الملاحظ أيضا كثرة استعمال هذا اللفظ مقترنا بلفظ الحياة، وخاصة في القرآن الكريم مما يفتح أعيننا على معنى آخر يقدم الدنيا على أنها ذلك المكان أو الظرف الذي يحوي حياة جميع الكائنات الحية، وبما فيها الإنسان الذي كرمه الله أيما تكريم حيث قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً).

هكذا يكون الإنسان خليفة الله في الأرض الذي سخر له كل مقومات الاستمرار في الحياة من جماد هذه الدنيا وحيوانها، وفي المقابل أوكل الله تعالى إليه مهمة التعمير والإصلاح، لذلك لا يمكن أن نعد وجود الإنسان في هذه الحياة الدنيا خاليا من كل هدف وحكمة، أي من قبيل العبث وإنما هو وجود تملؤه الحكمة من وجوه، لعل أهمها أن نعلم أن هذه الدنيا التي نعايشها هي بمثابة اختبار للإنسان في مدى التزامه بما أنزل من الوحي، والعمل به في الأرض لأن الذي خلق الموت والحياة يقول (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً).

من هنا يمكننا الانطلاق في كشف الغطاء الذي تتخفى وراءه الدنيا خادعة لكثير من الناس إلا قليل، فأول ما يغر الخلق ويبعدهم عن جادة الصواب هي الزينة التي تخلب العقول وتطمس الحقائق، وقد ذكرت هذه الكلمة في القرآن مرات عدة وبصيغ مختلفة للتأكيد على خطورتها، خصوصا إذا توسلها اللعين في إغواء الإنسان بتزيين الشهوات، حيث قال تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ).

وأعتقد أن المشكلة التي تطرح نفسها اليوم ليست مدى تعلق الناس بالدنيا وزينتها فحسب، وإنما هي الكيفية أو الصورة التي صرنا نرى بها الدنيا، وكأنه وقع الطبع والتنميط لوعينا بأن لا نثق إلا بالمحسوس وأن لا نصدق إلا بالملموس، لذلك فالأزمة فكرية ماورائية إيمانية بامتياز، ولعلها تلك هي آثار المادية الغربية الوافدة التي تكتوي بنارها الشعوب والبلدان العربية وتحت ظل ما يسمى بالحضارة أوالتحضر.

لا ينبري الناس عن اللهث خلف الدنيا، والبذل فيها، بل لقد بُذل الدين في سبيلها وشوهت قيمه، حتى صار مصدرا للحرب والإرهاب لا منبعا للحرية والسلام

فالقرأن يصور لنا الحياة الدنيا صورة أخرى مختلفة تماما عما هو سائد في المجتمع، فيعلمنا حقيقتها ويعرفها لنا من خلال قوله تعالى (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ). فمآل هذه الدنيا إلى انتهاء وزوال، هذه الحقيقة التي يجب تفعيلها ومعاملة الدنيا وفقها، فلا يشدك ظاهرها ولا يخدعنك و"كن في الدنيا غريبا أو عابر سبيل" هذه وصية النبي عليه الصلاة والسلام، لترى الدنيا عبارة عن ممر وليست بالمقام والمستقر.

ويواصل رسول الله إزاحة اللثام عن وجه الدنيا، فيعلمنا أن هذه الحياة الدنيا قصيرة وسرعان ما تنقضي أيامنا فنذهب ونتركها، بمعنى لا داعي لكل هذا التعلق والرغبة في التملك، وإقامة الحروب للقهر والتسلط. وقد جاء في سنن الترمذي عن عبد الله قال: نام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فقام وقد أثر في جنبه، فقلت: يا رسول الله لو اتخذنا لك وطاء، فقال: "مالي وللدنيا ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها".

هذه الصورة التي يقدمها القرآن والسنة الشريفة للدنيا، هي الصورة التي من واجب المسلمين اليوم استيعابها، فهي صورة جاءت أغلبها في إطار الذم والتحذير من الركون إليها باستثناء آية واحدة (وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) يقوم فيها ربنا بتذكير قارون باستعمال ماله في القربات مع نيل تصيبه من الدنيا على أن لا يأتي على نصيب الآخرة، على حد تعبير الشيخ محمد الطاهر بن عاشور في تحريره وتنويره.

وتجدر الإشارة إلى القول بأن هذه الدنيا هي من خلق الله الذي أتقن كل شيء خلقه ولا ريب، غير أن الإنسان باعتباره محور هذا الوجود، وحده من يبدل نعم الله إلى نقم بصرف اهتمامه عن المنعم. ولعل ذلك من أهم سمات العدل الإلاهي وأذكر في هذا الباب صيحة للفيلسوف الفرنسي مارلوبونتي وهو من رواد القرن العشرين أين أطلقها معلنا أن هذا العالم في الحقيقة مجرد ولا معنى له وأن الإنسان هو الذي يضفي عليه المعنى، وهو ما يحقق فاعلية الإنسان، ليكون حرا فيما يعطيه من المعنى ذو مسؤولية في اختياراته.

وفي نهاية المطاف ها نحن أمام حقيقة تجرد الدنيا من زينتها، وتخبرنا أنها ما تزينت إلا لامتحاننا وحجبنا عن مشاهدة حقيقتها الوهمية -إن صح التعبير- التي لا ينبري الناس عن اللهث خلفها، والبذل فيها من كل غال ونفيس بل لقد بُذل الدين في سبيلها وشوهت قيمه ومفاهيمه، حتى صار مصدرا للحرب والكبت والإرهاب لا منبعا للحرية والأمن والسلام.

لا بد أن يتذكر كل ظالم متجبر أن هذه الدنيا لا خلود فيها، ومن أراد أن يقف على سرعة انقضائها، فليتأمل هذا المثال الذي يضربه الله لنا لنفهم ونتفكر أكثر حيث يقول تعالى (إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ). ولكن هكذا هي الدنيا تعظم في عين الصغير وتصغر في عين العظيم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.