شعار قسم مدونات

الحرية بين صورتين

blogs - حوار
من أيامٍ لم تكن بالبعيدة فاجئني أحدُهم برأيِه في مسألةٍ تخصُّني، رافضًا، ليس فقط أن أُخالفَه في الرأي، ولكن حتى أن أُبدي رغبتي في عدم الاستماع له من الأساس، وكأنّه قد حقّ له القول وحقّ عليَّ الانصياع، فالحريةُ معه -وحده- وليس لغيرِه، حتى لو كان هذا الغير هو الشخص محور الحديث! ما أعنيه هنا بالطبع هو تجاوز المساحات الخاصة وليس النُصح بالمعروف أو النهي عن المنكرات.
وبهذا المنطق، أو بما يدور حوله بشكلٍ قريب، يُبدي الناسُ آراءهم في الناسِ أو شؤونِهم، ثم يعترض بعض الناس على أفعالِ الناسِ، ويتصارعون. فيقول الأول: هذا حرام، ويقول الثاني: من أنت لتحكم على الآخرين؟! ثم يتكرر الأمر مُنعكِسًا هذه المرة، فترى الذي دافع عن حرية الآخرين من قبلِ يُهاجم الآن غيرَه: هذه رجعية، ويجيب الثاني: أوَما كنتُ "من أنا؟!" حين اعترضتُ على الحرامِ من قبل؟!

وما أقصده هنا بـ "بهذا المنطق" هو منطق التناقض بمعارضة الذات، ومخالفة المزعوم. والمفارقة هنا لا تتجلّى فقط في تناقض الموقفين بقدر ما هي في الخلط الحادث في مفهوم الحرية، بل والتناقض الحادث في هذا المفهوم المغلوط. أما اللغط الحادث في مفهوم الحرية فهو ناتج عن تجريدها من الثوابت وتأسيسها على النسبيات. كيف؟

ليحافظ الإنسان على مبادئه من التجزئة، فإنه يحتاج المعيارية التي تتحاكم إليها هذه المبادئ، فتقضي بالصواب والخطأ وَفقها، منبنية عليها وراجعة إليها. ولكي تكون المعيارية سليمة يجب أن تكون مُطلقة، أي ثابتة لا تتبدّل حسب الأهواء. ولتكون كذلك فإنها تحتاج لمُقنِّن ثابت مُطلق لا يتغير ليفرضها على النسبيين المُتغيرين. الأول هو الله تعالى، واللاحقون هم البشر.

كل إنسان حرٌّ بشكلٍ مُطلق، فهو في تطبيقه حتى تشوبه العنصرية بالصورةِ التي تخفى عن العيان. فإن خلخل أحدُهم ثوابت الناسِ قيل: هو حر، دعه وشأنه، وكفاكم رجعية
كل إنسان حرٌّ بشكلٍ مُطلق، فهو في تطبيقه حتى تشوبه العنصرية بالصورةِ التي تخفى عن العيان. فإن خلخل أحدُهم ثوابت الناسِ قيل: هو حر، دعه وشأنه، وكفاكم رجعية

وبسحب هذا إلى ذاك، نجد أن مفهوم الحرية سيتحاكم إلى معيارية الإله الثابتة في شرعِه، وهي مُنقسِمة إلى رافدين، الأول ما كان خاصًا تمامًا ولا إثم فيه، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم، فيما حسّنه الترمذي عن أبي هريرة، أن "من حسن إسلام المرء، تركُه ما لا يعنيه". وهذه واحدة. والثاني هو الإثم المعلوم المُفارق لحيّز الخصوصية، الظاهر في المجال العام، والمُتباهَى به في بعض الأحيان، وفي هذا لدينا: "كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ" (آل عمران: 110). وهذه تشفع سابقتها، ويتلاقى الرافدان في مصبٍّ وحيد، الحرية هي ألا تنتهك حُرمات الله على المشاع ثم تطلب ألا ينصحك أحدهم أو ينهاك، فحينها يكون الأمر قد خرج عن رغبتِك كمخلوق إلى رغبة الخالق الذي يأمر في هذا الحال بالنُصح والتقويم.

الحرية هي احترام الإنسان كإنسان، والإسلام نفسه ارتقاءٌ بالإنسان. فتحفظ فيه الحرية للمرءِ خصوصيته في المباحات والصالحات، وتحميه من نفسه أن يضلّها أو يُضلّ غيرها

فإن كان المرءُ في بيته يفعل الذنب من وراءِ حجاب، فنعم لخصوصيته حُرمتِها ونرجو له اللهَ عفوَه، لكن إن خرج الإنسان بالذنب للمجال العام، بل وتفاخر به وأنكر خطيئتَه، فهو كمن دعى إليه، أو على أبسطِ الفروض أبدى تصالحًا معه بين المجتمع الذي يرفض –في مجموعه- أن تُنتهَك حُرمتُه بهذا الشكل الفجّ، وأن يُتعدّى على حقِّ الناسِ فيه بعدم معاينة الحرام، أو مشاهدته على الملأ دون مراعاة لمقداساتهم التي تُحرِّم هذا السلوك. فمن فعل هذا فقد خرق حريته بنفسه لأنه تداخل مع المجالِ العام الذي أمر إلهُه أهلَه أن يتناصحوا بالمعروف ويتناهوا عن المُنكر؛ لأنه "لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة: 78-79). وكذا أيضًا على الجانبِ الآخر ألا تُنكِر على من يفعل المعروف ولا تنهره لذاك، فهذا وإن كان خارجَ نطاق حرية الاعتراض –لأنه يمنع الاعتراض أصلًا- فإنها نقطة واجبة الذكر بمناسبة الحديث.

هذا عن مفهوم الحريةِ نفسه ابتداءً، والمسافات المُقنّنة فيه، بين الذاتي والموضوعي، وفقًا للشرع. فحتى لو كان المجتمع لا يدين بالإسلام فإنّه يضع القواعد التي تحفظ مجاله العام من الاختراق، وهي على تباينها بين المجتمعات إلا أنها تكتسب مركزية المُقدَّس الذي لا تهاون معه حتى يُحفظ رباط المجتمع المعنوي ولكيلا يتفسّخ أخلاقيًا فيصعب فيه كل شيءٍ حتى الحياة.

أما عن التناقض الحادث في المفهوم المغلوط نفسه للحرية، وهو أن كل إنسان حرٌّ بشكلٍ مُطلق، فهو في تطبيقه حتى تشوبه العنصرية بالصورةِ التي تخفى عن العيان. فإن خلخل أحدُهم ثوابت الناسِ قيل: "هو حر، دعه وشأنه، وكفاكم رجعية". وإن أراد آخر تثبيتها قالوا: "تخلُّف -وأيضًا- كفاكم رجعية". فما معيار الرجعية هنا؟ أم أن الحرية المتحرّرة من الثوابت الضابطة تقضي، حقًا، حسب هواها لا حسب ما تتحاكم إليه من حرية الإطلاق في كل شيء.

وهي هنا ليست حرية بقدر ما هي نسبية عديمة الشرف: تسمح بما تهواه وتمنع ما تلفظه. هذا قد يكون مفهومًا لو أعلن أهل هذه الحرية (المزعومة) مبدأهم من البداية، لكن أن تناور باسم الحرية وهي في الأساس حرية الخلخلة ومحاربة التثبيت، فذاك أمرٌ لا خلاق له.

والحاصل في النهاية أن الحرية كمفهوم تخضع لما تخضع له جُلُّ المفاهيم من تباين في الدلالات بين منظومةٍ فكريةٍ وأخرى، ولكنّها في المُطلق تتلخّص في حرية الخاص بألا يتعدّى عليك غيرُك في أمرٍ يخصّك، تمامًا كما في حرية العام بألّا تتعدّى أنت على مُقدّسات الناسِ (التشريع الرباني) أو تخرق مجالهم العام بما لا يقبلونه أو يقرّه منهجهم الثابت (دينهم المعصوم) الذي لا يأتيه الباطلُ من بين يديه ولا من خلفِه، وليس ذاك بعجيبٍ أو مُستغرَبٍ في بدهيات البشر، إذ أن المُطلق دائمًا يحكم النسبي، والثابت يُخضِع المُتغيّر لسلطته.

فالحرية في النهاية هي احترام الإنسان كإنسان، والإسلام نفسه ارتقاءٌ بالإنسان. فتحفظ فيه الحرية للمرءِ خصوصيته في المباحات والصالحات، وتحميه من نفسه أن يضلّها أو يُضلّ غيرها عن سواء السبيل. وكذلك تحفظ المجتمع من التعدّي على المساحات الخاصة لأفراده، وكذا من تفسِّخِه على يدِ من حاد أو انحرف عن الطريق القويم.
والله أعلم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.