شعار قسم مدونات

خليفة حفتر في "مسرحية الزعيم"

مدونات - السراج وحفتر

لردهة زمنيّة عابرة، أربكت ثورات الربيع العربي القوى الاستعماريّة المهيمنة على البلدان العربيّة، لكن سرعان ما تداركت الأمر وغرزت أنيابها ومخالبها في هذا المولود الغضّ لتشوّهه وتعود بواسطته إلى الديار كما عاد إخوة يوسف بقميص أخيهم إلى أبيهم مدّعين البراءة من كلّ ذنب وجرم!! هكذا عادت فرنسا إلى المربّع التونسي -بعد سلسلة من الاغتيالات التي شهدتها البلاد-، وهكذا نراها اليوم تعود إلى المربّع الليبي، وذلك بعد النفخ في صورة الأنظمة القديمة وإذكاء الثورات المضادّة فيهما وتوجيهها بما يتناسب وخصوصيّة كلا الحالتين.

ففي الحالة التونسيّة اعتمدت فرنسا على نسيج المجتمع المدني لتولّد فيه من جديد صورة "الزعيم بورقيبة"، وأغدقت فيه على جبهة الثورة المضادّة -بمعاضدة ماليّة إماراتيّة- بكلّ الإمكانات الماديّة والخبرات العمليّة، وصلت حدّ تعميد مخطّطاتها بدماء الأبرياء.. وها هي تنتهج نفس الأمر في ليبيا، حيث وجدت ضالّتها في شخص العميد المتقاعد خليفة حفتر الذي يذكّرنا ظهوره على شاكلة العقيد معمّر القذافي بمسرحيّة "الزعيم" لصاحبها عادل إمام، إذ تدور أطوارها حول تعويض "الزعيم" الراحل بشبيه له يتقمّص دوره بغية المحافظة على مصالح القوى المتنفّذة في دولة الوكالة الاستعماريّة.

ونظرا للطبيعة القبليّة للمجتمع الليبي وعسكرة أجهزة الدولة ومؤسّساتها على مدى اثنتي وأربعين سنة من حكم العقيد القذافي، مثّل العميد المتقاعد خليفة حفتر خير شخصيّة تراهن عليها فرنسا، تدعمها بالمعلومات والخبرات العسكريّة الميدانيّة، حيث شارك سلاح الجوّ الفرنسي المرابط ببعض القواعد الجويّة جنوب بنغازي في دعم قوّات الكرامة التابعة لحفتر في الشرق الليبي. كانت المسألة الليبيّة أكثر تعقيدا من نظيرتها التونسيّة، ومرّت بعدّة مراحل قبل الوصول إلى "اتّفاق باريس".

ظهر الماريشال خليفة حفتر في الصورة كزعيم لإقليم برقة -بعد تقاسم التركة البريطانيّة بين فرنسا وإسرائيل- عقب الدعم اللوجستي والبشري الذي تلقّته قوّاته المرابطة بجهة بنغازي في الشرق الليبي.

خلال المرحلة الأولى التي أوكلت فيها القوى الدوليّة لإيطاليا مهمّة تقليم أظافر القوّات الثوريّة الصاعدة في جهة طرابلس (قوّات فجر ليبيا وغيرها) في إطار المفاوضات التي مهّدت لاتّفاق الصخيرات، اجتهدت فرنسا في التكتّم على انخراطها في المسار التخريبي شرق ليبيا، وولوجها الميداني لموازين القوى دعما منها لحفتر وميليشياته. ففي ذاك الصراع استدعت قوى الاستعمار الجديد (الفرنسي والإسرائيلي) أدواتهما التقليديّة المحبّذة لإنفاذ مخطّطاتهما: "داعش" والأمراء (أموال الإمارات)!

فكما في الحالة التونسيّة، اعتمدت فرنسا على المال الإماراتي لتمويل عمليّاتها الخارجيّة المكلفة في ليبيا، الشيء الذي جعل أصحاب تلك الإمارة يعتقدون أنّ دولتهم أصبحت قوّة إقليميّة ضاربة، صاحبة باع في رسم السياسات الدوليّة وحبك المخطّطات (ويا لهول المفاجأة التي تنتظرهم عندما يستفيقون)!!

وللتذكير فإنّ الجغرافيا السياسيّة لليبيا في الحقبة الاستعماريّة شهدت ثلاث مناطق نفوذ استعماري خضع خلالها الشرق الليبي (إقليم برقة) إلى النفوذ البريطاني، وغربا (إقليم طرابلس) إلى النفوذ الإيطالي، وجنوبا (إقليم الفزّان) إلى النفوذ الفرنسي في تواصل جغرافي مع حدود المستعمرات الفرنسية في البلدان الإفريقيّة جنوب الصحراء مرورا بالجنوب التونسي والجزائري..

وعودا على بدء، يعيدنا اجتماع فائز السرّاج بخليفة حفتر يوم 25 جويلية 2017 في باريس تحت إشراف الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون إلى مربّعات النفوذ الأولى، مع بعض التعديلات. إذ لا تزال إيطاليا محافظة على شيء من نفوذها السياسي في إقليم طرابلس عقب تنصيب فائز السرّاج -كأحد مخرجات اتّفاق الصخيرات الذي رعته- على رأس الحكومة المؤقتة.

في الجهة المقابلة يظهر الماريشال خليفة حفتر في الصورة كزعيم لإقليم برقة -بعد تقاسم التركة البريطانيّة بين فرنسا وإسرائيل- عقب الدعم اللوجستي والبشري الذي تلقّته قوّاته المرابطة بجهة بنغازي في الشرق الليبي. حتما لن تظهر البنود الاستراتيجيّة لاتّفاق باريس إلى العلن، وستدير الدوائر الدبلوماسيّة الشأن الليبي بكلّ تفصيلاته في المرحلة الانتقاليّة، من انتخابات إلى صياغة دستور إلى إدارة أجهزة الدولة الجديدة ومؤسّساتها، من وراء الستار.

كلّ ذلك سيكون تحت الرعاية السامية لمراكز القرار عند نفس القوى المهيمنة، لكن بإخراج جديد متوجّه إلى الجماهير التي استفاقت يوما من غفوتها فأعادها المخرج بعد اعتلائه من جديد خشبة المسرح المدعوم إلى دورها المعهود: جمهور يصفّق في مسرح "الزعيم"!!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.