شعار قسم مدونات

ما الإنسان؟

blogs - رجل في الطبيعة
إن أية محاولة ومغامرة فكرية تهدف إلى البحث في الظاهرة الإنسانية والتعمق فيها؛ لن يكتب لها النجاح ما لم تتجه نحو الأعماق من خلال ممارسة فعل الحفر للوقوف عند الطبقات المكونة للإنسان. فتركيبة هذا الأخير أشبه ما تكون بالتركيبة الجيولوجية المتراكمة فوق بعضها البعض، ولا يستقيم فهم مكوناتها إلا بإدراك شمولي كلي لمحتوى جميع تلك الطبقات. فالإنسان مركز دائرة الإشكال الفلسفي، فكل موضوع يطرح على طاولة النقاش إلا وتكون أبعاده متصلة به، فهو مفهوم حربائي لا يمكن حصر دلالاته في بعد واحد.
ونظرا للاعتبارات سالفة الذكر، والمميزة للظاهرة الإنسانية، سنحاول خوض غمار هذه المغامرة الفكرية والغوض في أعماق هذا "الكائن" متسلحين بحذر شديد ونفس عميق للحفر في أغوار طبقاته؛ فخصوصية الإنسان تكمن في ذاته لا خارجه، فهو وحدة الأضداد وجامع للنقيض ونقيضه في الآن نفسه، وهويته مزدوجة وموزع بين "دائرة الطبيعة ودائرة القيمة". فهو مشدود إلى السماء (وفق تعبير سيد قطب) وفي الآن ذاته تجذبه الأرض والطين، وحركته التذبذبية بين هاتين الدائرتين هي ما أطلق عليه النص القرآني ب"الكدح" في قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ)، لكن إلى حدود اللحظة لم ننفذ بعد إلى الطبقة السميكة المكونة للإنسان، بل ولم نفهم بعد البعد الأولي والأصلي لهذه الذات المركبة.

وباستعارة المعجم الجيولوجي يمكننا التساؤل والقول: ما هي أقدم طبقة جيولوجية في الذات الإنسانية؟ لا شك أن كلما توغلنا في أعماق الإنسان، إلا وتتسع دائرة الإشكال وتتعمق، ولعل النص القرآني كان موضحا لهذه الطبقة الأولية للإنسان، وأعترف بأن هويته الأصلية هي الهوية البيولوجية أو دائرة الطبيعة (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً) و(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) وقوله (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ).

الإنسان الأولي كما سماه هيغل؛ كانت حياته قائمة على العنف واللااستقرار أو كما سماها الفيلسوف توماس هوبز (حالة حرب الكل ضد الكل) المتسمة بالتطاحن والوحشية والواقعية.

لهذا فالإسلام اعترف بالانتماء الأولي والأصيل في الإنسان، والفكرة أكدها الفيلسوف الكبير محمد إقبال؛ حيث أعاد قراءة قصة هبوط آدم من الجنة على ضوء فكرة الهوية البيولوجية الأولية في الإنسان؛ ويقول إن قصة هبوط آدم كما جاءت في القرآن لا صلة لها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب، وإنما أريد بها بالأحرى بيان ارتقاء الإنسان من بداية (الشهوة الغريزية) إلى الشعور بأن له نفس حرة قادرة على الشك والعصيان، وليس الهبوط عند إقبال الفساد الأخلاقي، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس واليقظة من حلم الطبيعة (1)، حيث يفرق إقبال بين مرحلتين في تاريخ الإنسانية؛ المرحلى الأولى التي كانت واقعة تحت سيطرة الغريزة، والمرحلة الثانية عندما ازدادت قوة العقل وتغلبت على الغريزة، وحينئذ أصبحت البشرية تتحرك في خط الرشد وبقيادة العقل لا بقيادة الغريزة. (2)

من هنا، اعتبر إقبال بأن معصية آدم (وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى) هي بداية تحكم الشعور لا الغريزة في السلوك الإنساني، وأن تلك القبسة الإلهية الروحية (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي) هي تدشين لمرحلة العقل، أو تلك النفخة الإلهية هي بداية تشكل للهوية الثقافية للإنسان التي ترفض الانصياع وراء الغريزة، أي أنها تدشين للانتقال من دائرة الطبيعة القائمة على العنف والفردانية والطبيعة (قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)، إلى دائرة القيمة حيث منطق التوافق والاجتماع والثقافة (يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ).

وبالتالي فالإنسان الأولي كما سماه هيغل؛ كانت حياته قائمة على العنف واللااستقرار أو كما سماها الفيلسوف توماس هوبز (حالة حرب الكل ضد الكل) المتسمة بالتطاحن والوحشية والواقعية دفاعا عن المصالح الفردانية والغريزية، وتأكد لنا أن أقدم طبقة في الإنسان هي البيولوجية المادية الطبيعية، وبالتالي يبقى الرهان حول كيفية الانتقال من الحالة الأولية أو دائرة الطبيعة إلى حالة الثقافة ودائرة القيم؟ كيف يمكن للمصطلح القرآني (الـكــدح) أن يساعد الإنسان في أن ينهى نفسه عن الهوى ويبلغ جنة المأوى؟ كيف ننتقل من (الإنسان الطبيعي الأولي) إلى (الإنسان التجاوزي)؟
_______________________________________
*هامش:

(1) كتاب تجديد الفكر الديني، محمد إقبال، فصل الألوهية ومعنى الصلاة.
(2) كتاب بسط التجربة النبوية، عبد الكريم سروش ص 255 فصل "خاتمية النبي"، ترجمة أحمد القبانجي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.