شعار قسم مدونات

رسالة من السجن الكبير

مدونات - غزة
 
دعاني صديقي الأمريكي مرّة لمحادثةٍ على فيسبوك، كان يريد أن يأتيَّ غزّة سائحًا، طالبًا مني أن أكتب له بعض التعليمات، فكانت رسالتي إليه:

"مرحبًا عزيزي..
لن تحتاج خلفيةً موسيقية هادئةً لتندمج مع هذا النص القادم من مدينةٍ لطيفةٍ لا تُزعج، هي ليست كسان فرانسيسكو، أو لاس فيغاس، ليست كمدريد أو تورنتو، وإذا ما مرتْ في بالك فهذه مُعجزة، لا إعلاناتٍ ترويجيةٍ على يوتيوب تُشجعك لزيارتها لأن السياحة هنا للحصار والكآبة وقلة الحيلة فقط.

لا مطار لهذه المدينة، إنما المطاراتُ في قلوب أهلها، وأكبر أحلامك فيها أن تنعم بيومٍ كاملٍ لا تنقطعُ فيه الكهرباء، وإذا اشتقتَ لحبيبتك فيها فعليك أن تُقلل سطوع هاتفك تمامًا لتستمر في محادثتها وقتًا أطول، لأن سلطة الطاقة والكهرباء لا تعترفُ بالحب والشوق واللهفة والحَماسة.

لا جبال في هذه المدينة السهلية ولا غابات، لكنك ستلحظ جبالًا من الأحلام تُطلُ من رؤوس ساكنيها، كثيرون يتحدثون الانجليزية والفرنسية ولغاتٍ أخرى فيها، سيحاورونك عن أفلامٍ ورواياتٍ وأبطال وأماكن وكأنهم لفوا العالم وهم لم يخرجوا من المكان ولو لمرة. ربما يحسدونك لأنك قادر على دخول مدينتهم السجن والخروج منها متى شئت لأنهم لا يملكون القدرة على اختيار وقت خروجهم منها".

مشكلةُ الكهرباء، فحدّث ولا حرجْ، أجيالٌ كاملةٌ تتكاثر وتكبر وساعات وصل الكهرباء لا تصل إلى خمس.
مشكلةُ الكهرباء، فحدّث ولا حرجْ، أجيالٌ كاملةٌ تتكاثر وتكبر وساعات وصل الكهرباء لا تصل إلى خمس.

يبقى الذي نعيشه في غزّة أكبر من أن نلخصه في تدوينة، فبشكلٍ يوميٍ تقفزُ أخبارُ الانفراجات على الشاشات دون أن نلمس شيئًا على أرض الواقع، انفراجاتٌ تزفها أفواهُ الساسة فقط دون ترجمةٍ على الأرض، وحال مليوني إنسانٍ يتجه للأسوأ مع استمرار الحصار وأزمة الكهرباء منذ عشر سنوات.

ولمن لا يعرفُ معبرَ رفح الذي يربطُ غزّة بالعالم، فإنه وجهة الكثيرين بعد أن دُفنِت أحلامهم، أو تعذر الوصولُ إليها في هذه البقعة، هذا المعبر المُغلق منذ فترة طويلةٍ حطّم آمال عائلاتٍ بلم الشمل، بل وفي حالاتٍ كثيرةٍ دفع أزواجًا لطلاق زوجاتهم بعد أن حاولن لشهورٍ طويلةٍ وربما سنوات أن يصلن إليهم ولم يستطعنْ. في هذه البقعة الساحلية جنوب غرب آسيا تنتهي تأشيراتُ السفرِ غالبًا دون سفرٍ، يمضي الوقتُ دون انتباهٍ، وتسيرُ الحياةُ فيها متموجةً كبحرها، تلمسُ شوقَ الناس للفرح بعين، والتعاسة بالأخرى.

أما مشكلةُ الكهرباء، فحدّث ولا حرجْ، أجيالٌ كاملةٌ تتكاثر وتكبر وساعات وصل الكهرباء لا تصل إلى خمس، بل ودعا ذلك مسؤولون إلى طلب حلولٍ وابتكاراتٍ من الناس لتساعدهم في التغلب على المشكلة وكأن المواطن يعرفُ سبب المشكلة حتى يعرفُ حلها في ظل اتهاماتٍ يتقاذفها الساسةُ كلٌ يحمّلُ الآخر المسؤولية.

ومع هذه السنوات التي مضت، السنوات العشر المُحمّلة بثلات حروبٍ، وأزمة كهرباء تراوحُ مكانها، وحصارٍ لا يعي حُب الناس للحياة، وتطمينات الجدات لأحفادهن أن المُستقبل أفضل، أكاد أقول أن هذا المكان هو الأجدر بالحياة على الإطلاق، وأنه ما من بقعة في هذا العالم تستحق الحياة أكثر من هذا المكان الذي كابدَ الكثير وتحمّلْ، وضحى بخيرة أبنائه في سبيل أن يحيا الكل.

undefined


وختامًا بدأتُ مشروعًا لتوثيق الحياة اليومية بقصصٍ من غزّة تحكي ما يُفكر ويشعر به الناس، وهذه قصة من الشارع:

"تزوجتُ منذ ٣٠ عامًا، رُزقتُ بثلاث بناتٍ، وكان عليَّ أن أعمل لأجلهن، ولأجل حياةٍ كريمةٍ يَحيينها، لم أجد عملًا، فاضطررتُ لأوصل المياه إلى بيوت المُخيّم مقابل شيءٍ رمزي، وعلى مدى السنوات الماضية ممتن لأكثر من ١٠٠ دراجةٍ تعطلّت وكان إصلاحها كفيلًا أن أُدرّس بناتي الثلاث وأُدخلهن الجامعة، لم أجد راحةً أكثر من نظرة بناتي إليَّ وكأنني بطلهن الوحيد".
– فؤاد / ٥٥ سنة / غزّة

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.