شعار قسم مدونات

جولة داخل عقل مغترب عربي

مدونات - رجل
سنتان الآن مرت على مجيئي إلى فرنسا، عندما قدمت كانت لدي رغبة كبيرة في استكشاف الثقافة الفرنسية وفلسفة الناس في الحياة، وخوض غمار مغامرة جديدة تدخلني إلى لب الحضارة الغربية بغية التعرف عليها أكثر وأكثر. هذه الرغبة سرعان ما اتخدت مسارا آخر لتتحول إلى ملاحظة لمشاكل المهاجرين العرب ورغبة في التعرف عليها وعلى العوائق التي تشغل أذهانهم وعقولهم، فوجدت نفسي أراقب عن كثب التحولات التي تطرأ على عقلياتهم وأفكارهم وما يصاحب ذلك من تغيرات في سلوكاتهم وأفعالهم.
وبعد حديثي في التدوينة الأولى عن مستقبل المهاجرين الذي يتأرجح بين الحلم في العودة للوطن والرغبة في الاستمرار في العيش في البلد الغربي، أريد اليوم أن أسلط ضوءا كبيرا على مشكلة أخرى تواجه المهاجر العربي ويعاني منها في صمت رهيب.سأرشدكم اليوم من خلال هذه التدوينة في جولة داخل عقله لنتعرف على صرخة الصراع الثقافي التي يخنق الكثيرون صداها ويعانون في صمت حينا وتجاهل حينا آخر.

إن المغترب اليوم وحتى القاطن ببلده الأم يعاني نفسيا وفكريا من صراع ثقافتي الشرق والغرب، صراع ينهش النفوس والعقول، أما ضحيته الوحيدة فهي الإنسان العربي الذي يقف بين القبول والرفض لكلتا الثقافتين، الأولى تكرس التقليد والجمود و تقدس التقاليد والعادات والروحانيات بمختلف ألوانها وصنوفها في حين أن الثانية تقوم على الانفتاح واستخدام العقل والتطور والتكنولوجيا والعلوم.. هذا الاختلاف الشاسع يزعج المغترب كثيرا ويؤرقه بشدة، وقد لمست هذا الأمر كثيرا في كلام أصدقائي وأقاربي وكذا في سلوكاتهم.

عقل المغترب العربي حافل بشدة بتساؤلات كثيرة، وعلامات استفهام وتعجب على أمور كثيرة شكلت في الماضي جزءا هاما من شخصيته وحياته
عقل المغترب العربي حافل بشدة بتساؤلات كثيرة، وعلامات استفهام وتعجب على أمور كثيرة شكلت في الماضي جزءا هاما من شخصيته وحياته

أغلب العرب الذين تقابلهم في بلاد المهجر -وهذه ملاحظة شخصية- لم يعودوا يلقون بالا لبعض العادات والسلوكات التي كانوا يفعلونها أول مجيئهم إلى بلد الهجرة والتي علقت فيهم بسبب ثقافتهم وتربيتهم الأصلية، وهذا يحصل إما لأنهم رأوا هذه السلوكات أمورا تافهة لا صحة لها أساسا، وهنا نطرح سؤالا كبيرا وهو لماذا إذن باقي الناس الذين لم يقدموا إلى المهجر لا يزالون مستمرين في فعلها ؟، وإما تجدهم يطرحون عليك تساؤلات جمة عن الدين والأخلاق والإلحاد والسياسة متسلحين بالمنطق الذي يغيب كثيرا من الأحيان في فلسفة الشرق ومستدلين بقوة بالتقدم الحضاري للغرب على جميع المستويات في ظل ثقافة لطالما انتُقدت وانتقدوها هم أيضا قبل مجيئهم إلى بلد الهجرة.

إن عقل المغترب العربي حافل بشدة بتساؤلات كثيرة، وعلامات استفهام وتعجب على أمور كثيرة شكلت في الماضي جزءا هاما من شخصيته وحياته، وفي أغلب الأحيان لا يجد من يجيب بشكل واضح على تساؤلاته أويزيل علامات الاستفهام على كثير من المواضيع ..فيعيش المسكين حالة من العذاب النفسي والفكري لا يرثى لها.

محاولة طرح التساؤلات الصائبة والأسئلة الصادقة، والأهم من هذا البحث على إجابة لها في كل مكان وبكل الطرق الممكنة، هاتين النقطتين قد تجنبان التيه والضياع الذي لحق الكثير من المغتربين العرب

إنه لمن الصعب لدرجة كبيرة، في ظل ما يعيشه العالم اليوم من عولمة وتقارب بين الشعوب والحضارات وفي إطار التناقض الكبير والتفاوت بين الثقافات والفلسفات، أن يجد المغترب العربي مهدئا مريحا للصراعات داخل عقله أو يبتكر روشتة سحرية يحل بها مشكل الثقافة الأصلية وثقافة بلد
الغربة.

إنني أرى أن أحد المسببات الرئيسة لصعوبة الاندماج والاستقرار بل وعدمه أحيانا هي وجود اختلاف شاسع ومخيف بين ثقافتي البلد العربي وبلد المهجر، فينقسم المهاجرون إلى متقبل لهما معا أو لأحدهما وثائر على الأخرى، ومن يجد نفسه لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، تتقاذفه أمواج الشرق من جهة وأمواج الغرب من جهة معاكسة ولا هوية له في آخر المطاف. لا شك أن المشكلة ليست في الشخص في حد ذاته، إنما هي مشكلة في الثقافات نفسها وما تحث وتقوم عليه.

إن كل قارئ عاقل صادق مع ذاته وملاحظ لأحوال البلاد العربية بالخصوص لا يمكنه أن ينكر ولو لوهلة أن الثقافة العربية الإسلامية السائدة اليوم في حاجة ماسة وعاجلة إلى إعادة نظر فيها، وإلى تجديد وتنوير يعيد لها الحياة التي افتقدتها منذ مدة، وهي لا تزال تقع وتوقع شعوبها وحضارتها في أوحال التخلف والركود الفكري والاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وينبغي على المفكرين والدعاة والعلماء وكل من قد يكون له حظ ومساهمة في تغيير وضع الثقافة العربية الإسلامية إلى الإسراع في ذلك ما أمكن وإلا فإن الوضع سيتأزم أكثر فأكثر في البلاد و خارجها وسيفوتنا الغرب بسنوات ضوئية أخرى وسيضيع من بين الأيادي الكثير من الفئات الشابة والموهوبة التي تتابع دراستها خارج البلدان العربية وذلك بسبب حقدها وتمردها على كل ما يلحق باسمه كلمة عربي أو إسلامي.. وهذه كارثة.

ما الحل إذن؟ لا بد أن هذا السؤال هو الذي يدور أو دار بذهنك، الجواب عليه صعب للغاية ويحتاج عشرات الصفحات لمناقشته والإجابة عنه، لكن أريد فقط أن أتحدث عن نقطتين أساسيتين في نظري. الأولى هي أن لا يقع المغترب العربي ولا حتى الذي يقطن في وطنه في التبعية العمياء للغرب، تبعية في كل شيء، الصالح والطالح، تبعية تفقده هويته ويذوب تماما في ثقافتهم ويتقبلها بدون عقل نقدي لمنتوجاتها.. بل يجب التسلح بمنطق التمييز بين الأشياء ومعرفة النافع من غيره والقدرة على نقد الأفكار وفرزها وعدم تقبل كل ما تصدره الفلسفة الغربية ..

أما النقطة الثانية فهي محاولة طرح التساؤلات الصائبة والأسئلة الصادقة، والأهم من هذا البحث على إجابة لها في كل مكان وبكل الطرق الممكنة، هاتين النقطتين قد تجنبان التيه والضياع الذي لحق الكثير من المغتربين العرب في البلدان الغربية ويقفون بفضلهما أمام عواصف الثقافة الغربية التي تجرف الأخضر واليابس وتخبطات الثقافة العربية الإسلامية التي لا تنتهي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.