شعار قسم مدونات

جرب أن تكون سوريا

blogs - لاجئون سوريون في الجزائر
شاهدتُ مقطعَ فيدو على إحدى وسائلِ التواصلِ الاجتماعية، يتلكمُ فيه محاضرٌ إلى طلابِهِ، ممسكاً بيده كأسَ ماءٍ، وكانَتْ فكرتُه تقومُ على أنَّ التّفاعل مع الحزنِ لا يتوقفُ على الحزنِ ذاتِهِ بقدرِ ما يتوقفُ على مدّةِ حملِنا لهذا الحزنِ؛ فكأسُ الماءِ مهما كان خفيفاً وزنُها فإنّنا لا نشعرُ بثقلِ وزنِهِا إذا حملْناها دقيقةً، ولكنّها تصبحُ أثقلَ من جبلٍ إذا حملْناها خمسَ ساعاتٍ متواصلةً، مثلاً، وهكذا تناسباً طردياً.
شاهدتُ المقطعَ مثلَ غيري في بقاع هذا العالمِ الأنيقِ بصغرهِ، وقد كانَ لهذا المقطعِ أنْ يؤثرَ فيَّ كما أثّرَ في غيري، لكنْ لو كنتُ غيرَ سوريٍّ… لكنّني – وكوني سوريّاً، وسوريّتي تحزُّ عنقي من الوريدِ إلى الوريدِ- علقتُ على المقطع بقولي للناشره: (لو جرّبَ المُحاضرُ أن يكونَ سوريّاً لاختلف كلامُهُ كلُّهُ)
أخي الإنسان.

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، تقف على قارعةِ الهموم دونَ أن تكونَ أمامَكَ نجمةُ أملٍ توقدُ لكَ في عتمةِ اللّيلِ قنديلاً، فتبحرُ سفينتُكَ عبرَ بحرٍ من الأسى، وتجوبُ بك الآفاقَ دونَ أن تجدَ شاطئاً واحداً من شطآنِ ربّكَ الواسعةِ يرحبُ بك، أو يعطيك وقوداً لسفينتك، الجميعُ سوفَ يعطيكَ وعوداً لا وقوداً، والجميعُ سوفَ يبيعكَ حصتَهُ من القمرِ، ولكنّهُ لن يجودَ عليكَ بحفنةِ ترابٍ من الأرضِ تسندُ بها بطنَ نزوحكَ.

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، يطعنُكَ القريبُ قبلَ البعيد، ويشمتُ بك الجارُ قبلَ العدو، ويمنُّ عليك إن قدّمَ لكَ فتاتَ الخبزِ، معَ أنّك في الأمس القريبِ وفي لحظةٍ من عينِ الزّمن ِفتحتَ قلبَك قبلَ أرضك للجميع.
جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، ترى آمالك تُنحر أمامَكَ كما تُنحر النعجةُ المهيضةُ، وتصلبُ أحلامُكَ على مذبحِ الحقدِ القديمِ، وتغورُ طموحاتُك في رمال الحربِ المتحركةِ التي تبتلعُ كلَّ من يطؤها، فيضيعُ منك مستقبُلك، وماضيك، وتضيع نفسُك حسراتٍ على حاضرِ وطنِكَ.

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، ترى جميعَ أوراقك بيد عدوك، هل جرّبَ أحدٌ منكم كيف يكون جواز السّفر وسيلة ابتزاز؟ هل جرّبَ أحدكم أن يحلمَ بالحصول على هويته التي تثبت انتماءه لأرض عاش بها أجداده؟
جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، ترى جميعَ أوراقك بيد عدوك، هل جرّبَ أحدٌ منكم كيف يكون جواز السّفر وسيلة ابتزاز؟ هل جرّبَ أحدكم أن يحلمَ بالحصول على هويته التي تثبت انتماءه لأرض عاش بها أجداده؟

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، تخاف أن تنجب طفلاً كي لا تظلَمه، فأنتَ أصبحتَ بلا وطنٍ ولا ملجأ، فكيف تقترفُ إثمَ استحضارِ وجهٍ جديدٍ إلى هذا العالمِ الذي يضيق بك أصلاً؟! ويبقى شبحُ السّؤالِ يطاردُك؛ ما الذنبُ الذي اقترفه ذلكَ الطفلُ حتى يُولد سوريّاً؟!

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، ترى مرابعَ طفولتكَ، والطّرقَ التي اعتادتْ على قدميك تجوبُها طالباً للعلم، طالباً للرّزق، طالباً لرّؤية من تحبُّ وتهوى، جرّبْ أن تراها مهدّمةً نعقَ البومُ على أطلالها، فأصبحتْ دماراً لا يحاكيه دمارٌ. جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، تحكّمَ في رقبتكَ من يعشق إذلالك، وأمسك وتينَكَ من يهفو إلى إزهاق روحك، ووقعتَ فريسةَ من تغذّى على الحقد، وعاش على الحقد، فأصبحَ يتفننُ بقهرك بكلِّ وسيلةٍ، وأصبح يرى مصدرَ تغذيتِهِ من دمك، وكلّما شربَ الدّمَ سَكِرَ أكثر، فأضحى يلاحقك على كلِّ نفسٍ تتنفسهُ، وعلى كلِّ لقمةٍ تأكلُها وعلى أيِّ رمشةِ جفنٍ ترمشُها.

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، يضيق قلمك عن التعبير عن مآسي وطنك، فتهرب إلى عالم الصّمت القاتل. جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، وأخبرني عن شعورك إنني أنتظر تجربتك.

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، ترى جميعَ أوراقك بيد عدوك، هل جرّبَ أحدٌ منكم كيف يكون جواز السّفر وسيلة ابتزاز؟ هل جرّبَ أحدكم أن يحلمَ بالحصول على هويته التي تثبت انتماءه لأرض عاش بها أجداده؟ جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، هذا يعني أن يصبحَ جوازَ السّفر حلماً تحلمُ به ولا تطالُه إلا بشق الأنفس، بعد رحلة الابتزاز التي تدفع بها المالَ الجمَّ ليكون جوازُ السّفر السّوري أغلى جواز في العالم، مع العلم أنّ حاملَهُ منبوذٌ فوق أيِّ أرض، وتحت أيِّ سماءِ، حتى في وطنه! جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، تحاصرك ضباعُ العالم، مكشّرةً عن أنيابها، تنتظرُ اللّحظةَ المواتيةَ كي تنقضَّ عليكَ، تاركةً إيّاكَ جزرَ السّباعِ وكلِّ نسرٍ قشعمِ. جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، ترى وطنك يُغتصبُ ليلَ نهارَ بطائراتِ الصّديق قبل العدو، وأرضك مداساً لكل الميلشيات الطائفية، ولكل شذّاذ الآفاق، وترى قول المتنبي:
وسوى الرّوم خلفَ ظهرِك رومُ فعلى أيِّ الجانبين تميلُ

ماثلاً في وطنك، فالجميعُ عدوٌ للجميع، ولا خاسرَ في الحرب… ولا رابحَ! ويستمر الشّعبُ بالدّوران حولَ السّاقية، مغمضَ العينينِ، باذلاً دمَ أبنائهِ ومستقبلَهم. جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، ولم يبقَ في رحابِ الأرضِ جهازُ مخابراتٍ إلا وعاثَ في أرضِك فساداً، مستهدفاً البنيةَ الاجتماعيةَ، مهدّماً الرّوابط بينَ الشّعبِ، حتى يفرقَ بين المرءِ وزوجه، وحتى يُحدثَ صدعاً بين مكونات الشّعب السوري، ويهتّك البنيةَ الاجتماعية تهتّكاً لا يرفؤه الزمنُ مهما طالَ.

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، إنّي أعرفُ أنّها تجربةٌ صعبةٌ لا يحتملُها إلا من كتب الله عليه أن يقطن هذه البقعة المباركة من الأرض، فأيُّ بلادٍ في الدنيا يُستجلبُ إليها كلُّ الرّعاع في العالم كي يُسحق فيها شعبٌ كانَ ذنبُهُ الوحيدُ أنّهُ رفعَ رأسهُ ذاتَ ربيعٍ؟

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، ولو ليوم واحدٍ في حياتكَ، كيف ذلك؟ أنا أخبرك، اجلسْ في غرفةٍ مظلمةٍ، ثم تخيلْ أنَّ وطنكَ – على رحابته – أصبحَ سجناً كبيراً، وأنت مُراقبٌ فيه مراقبةً تُحصي عليك أنفاسك، ثم عليكَ أن تتوقعَ أن تداهمَ بيتك دورية من أحد سبعةَ عشرَ فرعاً أمنيّاً، ثم تذهبُ معهم، وممنوعٌ أن يسألَ عنك أحدٌ، ثم تغيبُ في أقبية السّجون ما شاءَ الله لك أن تغيبَ، يُمارس عليك فيها ما لم يخطرُ ببالِ إبليسَ من أساليبِ التّعذيب. ثم قد يكون مصيرك الموتُ أو ترجعُ إلى أهلك بعدَ أن تفقدَ كلَّ مقوماتِ الحياة هذا إن حالفك الحظُّ ورجعتَ، تخيل بعد ذلكَ المطرَ الزّاخرَ من الصّواريخ المُدمّرة، والبراميل المتفجّرة، ومختلف الأسلحة الغبية والذكية، ثم بعد ذلك أخبرني عن شعورك.

جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، يضيق قلمك عن التعبير عن مآسي وطنك، فتهرب إلى عالم الصّمت القاتل. جرّبْ أن تكونَ سوريّاً، وأخبرني عن شعورك إنني أنتظر تجربتك… أخي الإنسان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.