شعار قسم مدونات

القانون.. الزمن ووهم الحداثة

blogs - مطرقة القاضي
كلما جلست أرقب تطور العالم من حولى إلا ويصيبني الإحباط واليأس، وتراني متمنيا العودة نحو الماضي، فينتابني أيضا شعور بالموت كلما رأيت الزمن يتقدم إلى الأمام، وكلما تقدم خطوة، أصاب قلبي سهم الموت، ولف عقلي اللامعنى لفا. أتذكر ذات يوم من العام الماضي أنه قد كتبت مقالا حول الثقافة العربية وتأثرها بزمن اللامعنى، فأصبح الباحث عن المعنى كالمجنون، والمهرطق، بل أصبح كذلك فاقد لمعناه. ورغم ذلك فإن زمن اللامعنى لم يكف عن اقتحام كل مناحي الحياة، بل أصبح أكثر استبدادا، يمارس على الإنسان سلطة الوهم، ليصبح الإنسان عبدا من عباد التكسب الشكلاني والمادة والبحث عن المعيوش، فقد صار عنصر الزمن يلعب دورا سلبيا في زيادة اللامعنى وتشعبه.
كلما نظرت إلى المحيط وإلى نفسي أيضا، أجد أنه مقيد ومسلوب الإرادة، فلم يعد للمرء لحظة زمنية يصحح فيها مساره، أو يقرأ فيها كتابا أو يكتب أو يمارس المعنى (…). والحداثة جزء من وهم كبير يقضي على الإنسان العاقل، فيصير آلة بسبب: التقنية – المكننة – التكنولوجيا – الإعلام – الأنترنيت، لذلك تراه غير مهتم بتراثه الإنساني، بل لا يرى ماضيه مطلقا. والحداثة وزمن اللامعنى يتوسلان لإقامة نظام كوني يحول الإنسان إلى كائن غير أخلاقي، يمارس الأفعال دون إدراك منه إلى جليلها أو وضعها، ومن أهم الوسائل التي يتوسل بها لإقامة هذا النظام، هو تكسير البنية الأخلاقية في القانون، بل يصبح القانون فصولا ومواد وفقرات جوفاء منفصلة، ومفتتة.

إن زمن اللامعنى تحكم واستبد بالممارسين للقانون، فأصبحوا يحاولون أن يتكسبوا منه فيظهرون عدائم من خارقي القانون والجاهلين به، فيقضي هذا العداء على فكرة التضامن في القانون. يحول القانون الممزوج بوهم الحداثة إلى مجال للصراع والتنافس، فليس الغرض هو تحقيق العدالة، وإنما تطبيق النص والفوز على الخصم، لذلك كثر التحايل وخرق العدالة بالقانون، وما أصعب أن يطبق النص عليك بكل تفاصيله فيظلمك، ويخرق العدالة.

اليوم القضاء في بلاد المغرب؛ غير مقرون بالسن والتجربة الطويلة، بل القضاة يختارون من بين من أجيزوا في علم القانون أو الشريعة أو تعمقوا في مجال القانون ما بعد الإجازة، دون مراعاة للسن والخبرة.

ولقد أصبح القضاء أيضا يعاني من أمراض شتى، ناتجة أساسا بتأثرهم السلبي بالزمن والحداثة، فالقاضي اليوم ملزم بتطبيق النص وهذا ما نص عليه الدستور المغربي، كما أنه ملزم بالبت في أجل معقول، لذلك فالزمن يتحكم في اجتهاده وفي قدرته على الإبداع، لأن عدد القضايا في ازياد مهول، بل لقد تعقدت الوقائع واستشكل على بعض القضاة مواكبة هذه الإشكالات، لذلك بدأت العدالة بالانصهار قانونا وقضاء، (حرفا ومؤسسة).

وفي المقابل أصبح القضاء اليوم ببلاد المغرب مطلوبا مرغوبا فيه، وقد كان في زمن مضى يكلف به الإنسان، ولنا في كثير من قصص الفقهاء العبرة والدلالة العميقتين، فقد كانوا يحرصون على عدم قبول هذا التكليف الذي يكون من أولي الأمر، وهذا جوهر المقارنة. وإن وضع قضاء اليوم في ميزان الفقه الإسلامي يوصل إلى نتيجة سلبية، فلقد كان فقهاء الإسلام صائبون في حرصهم الكبير على عدم تولي أمور القضاء، وفي هذا الأمر عناية بولاية القضاء، فهو ليس سلطة يراد بها المظهر والعمل والأجر المادي، وإنما هو استخلاف الله للبشر، والحرص على العدل بين البشر، والحكم بالعدل يقتضي العلم بالأمور، وهذا العلم يتطلب النضج والتجربة، فقد كان علماء وفقهاء الإسلام ينكبون سنين طويلة في موضوع من مواضيع العلم لا ينفكون عن الأسفار، وطلب العلم من أقطار الدنيا، وبهذا يكون القضاء مساوقا لتجربة الشخص في طلب العلم.

واليوم القضاء في بلاد المغرب؛ غير مقرون بالسن والتجربة الطويلة، بل القضاة يختارون من بين من أجيزوا في علم القانون أو الشريعة أو تعمقوا في مجال القانون ما بعد الإجازة، دون مراعاة للسن والخبرة. وأيضا إذا وُزن قضاء المغرب اليوم بهذا الميزان السابق، فإنه لن يزن شيئا، فقد أصبح التطلع الشكلي التكسبي إلى القضاء أمرا يهمل الحرص على صفات القاضي الحقيقية، إن زمن اللامعنى قد لف أمور القضاء لفا، وتم تقويض معانيه التي أسستها الشريعة الإسلامية وفقهاء الإسلام. وهكذا تمكن وهم الحداثة وزمن اللامعنى من القضاء على بنية القانون الاخلاقية والعادلة، من خلال مضمون النص المفصول عن سياقات وهموم المجتمع ومن خلال ايضا مؤسسة القضاء التي عطلت العقل تعطيلا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.