شعار قسم مدونات

الربيع العربي من منظور مختلف

blogs - نظريات علمية
نعيش في عصر أطلق عليه الفيلسوف الفرنسي فرانسوا ليوتار عصر "ما بعد الحداثة" وحدّده بضياع المعنى، واللاهدف، وتغوّل التكنولوجيا على حساب أفول الإنسان ضمن النظام العالمي الرأسمالي. وقبل ليوتار كان جورج لوكاكش قد استشعر ملامح الانحطاط هذه، فنحت لأول مرة مصطلح "التشيؤ" للدلالة على استيلاب قيم الإنسان العليا في عصر ما بعد الحداثة، وهيمنة نظام القطب الواحد. ناهيك عن هيربارت ماركيوز ومقاربته بين الأيديولوجيا والعلم بوصفه أصبح خادماً للنظم السياسية والعسكرية، وبالتالي تخليه عن مهمة خدمة الإنسان ليصبح أكبر خطر يهدد الإنسانية من خلال صناعات عسكرية تتفنن في صناعة الموت. زد على ذلك أطروحة روّاد مدرسة فرانكفورت قاطبة حول هذا الأمر، لاسيما هابرماس ومحاولته لاستئناف مشروع الحداثة كبديل لما بعد الحداثة. 

وعلى الصعيد العربي، تتوارى النزعة الإنسانية، وتكاد تختفي في جل أقوال وأفعال أصحاب المنطلقات الأيديولوجية العربية، وكأن مفاهيم الكره والإقصاء ورفض الآخر أصيلة في نفوس هؤلاء، وما يحدث في العالم العربي اليوم ليس فلسفة اختلاف خلاقة، بل خلاف لا أخلاقي مسلح. "الدين لم يمت يا ماركس" ربما ودَّ كثير منا أن يقولها لكارل ماركس، لأن تلاميذه العرب سلفيون له جداً، ومن يطالع التاريخ يدرك أن الدين كان حاضراً في كل العصور وبتفاوت، فهو ظاهرة ماهوية مرافقة للنفس البشرية، ومكون أساسي من مكوناتها. وأن جدلية التاريخ ليس لها صيغة الحتمية التداولية المقتصرة بين نظام رأس المال والنظام الشيوعي.

ما بين عصور الظلام والنهضة الحديثة ثمة بون كان لزاماً على أوروبا أن تشرب من كأس علقمه كرهاً أم طوعاً، وما يعيشه الوطن العربي اليوم ليس عن عصور الظلام تلك ببعيد. ولكن طالما نحن ما زلنا نعيش هذه الأحداث فإنه من الإجحاف الحكم عليه مبكراً.

هل كان ماركس ماركسياً؟ أحد الأصدقاء سألني. فقلت ربما إنه ليس براضٍ عمّا يفعله الماركسيون العرب اليوم، وذلك ليس بسبب تراجع دورهم فحسب، بل بسبب لا عقلانية مواقفهم في الأحداث التي يعيشها الوطن العربي، فهيغل المسلم ليس خرافة كما يظن هؤلاء، فها هي الهيغليات المثالية تتعاظم وتحقق نفسها أمام أعينهم، وتحقق نفسها ككائن تاريخي من لحم ودم، وبالرغم من أن الإسلاميين لم يدركوا بعد أن جدل التاريخ ليس مثالياً، إلا أن مفاهيم الصحوة الإسلامية، ودولة الخلافة بدأت تعود، والشعور بضرورة العودة إلى الإسلام كما حدّده سيد قطب بدأ يشتد ويأخذ شكلاً أكثر حدة.

"ما الذي حدث لجميلة الجميلات، وقدس الأقداس وملكة العلوم في معبد الفكر؟" هيغل تساءل هكذا عن حال الميتافيزيقا يوماً. ليجيبه ماركس أنها الأفيون، ولكن على الصعيد العربي "الإسلام هو الحل" عبارة تصرخ بها حناجر أصولية. ولكن "أي إسلام؟!" علماني يتساءل بحرقة. "ما هذه الفوضى المقيتة" كثير منا قالها في لحظة ما، وكأننا لم ندرك مع ماركس بعد أننا أسرفنا في تفسير التاريخ وحان الأوان لتغييره، وأن الإنسان هو من يصنع تاريخه، وأن التاريخ هذا ليس سوى اختيارات إنسانية محضة.

واليوم تتعالى أصوات ترفض مفهوم "الربيع العربي" الذي خلّف الدمار، والاقتتال الطائفي والتطرف، والتآمر والترهيب، وأضاف رصيداً جديداً على حساب الخيبات العربية، وقوّض أسس التعاون العربي، وأضعف شعور القومية العربية. "لا شيء أعمق من ذلك الذي يظهر على السطح" ربما كان هذا أدق وصف هيغلي لأصحاب الخطابات الرافضة للربيع العربي. إذ أنه وبقليل من التحليل سنجد أنهم يتمسكون بقشور هذه الأحداث التاريخية؛ إنهم يعتقدون أن هذا الذي يظهر على السطح حقيقي ودائم، وكأنه ليس مرحلة كان على هذه الأمة أن تعيشها، وتصطلي بلهيب أخطاء قرن كامل وأكثر، فما يظهر على السطح ليس هو الأعمق، والحقيقة لا تسمح لنفسها أن تتعرى على ذلك السطح.

تتبدل وتتغير كثير من فهومنا عندما نرى التقدمي أصبح رجعياً، والعلماني يغازل علناً الأصولي الذي ينتمي لطائفته، والسلفي أصبح ديمقراطياً وحداثوياً، والوطني يتهم بالخيانة، ليمثل دوره الخائن، فهذه الشيزوفرينيا ضرورية للعقل العربي الذي اعتاد وضع الأمور في قوالب محددة.

"إننا لن نفهم حقيقة النهضة الأوروبية دون الرجوع إلى ذلك الجحيم الذي عاشته أوروبا في عصورها الظلامية" بهذه العبارة استهل روجيه غارودي كتابه (كيف صنعنا القرن العشرين)، وما بين عصور الظلام والنهضة الحديثة ثمة بون كان لزاماً على أوروبا أن تشرب من كأس علقمه كرهاً أم طوعاً، وما يعيشه الوطن العربي اليوم ليس عن عصور الظلام تلك ببعيد. ولكن طالما نحن ما زلنا نعيش هذه الأحداث فإنه من الإجحاف الحكم عليه مبكراً، فمخاض الثورات طويل، والثورة الفرنسية احتاجت لعشرات السنوات لتحقق أهدافها، ولكن الفارق هنا، والمقلق حقاً، أن ثورة فرنسا وجدت من يحضّر لها، ومن يحدّد مسارها، ويؤطرها كفلاسفة مثل فولتير وروسو وديدرو وهيلفيتيوس ومونتسكيو وغيرهم، فقد كانت الثورة الفرنسية نظيفة تماماً، وبأيادي فرنسية خالصة، دون تدخلات خارجية، وأجهزة مخابرات عالمية.

وكذلك كانت الثورة البلشفية في روسيا، وهذا ما كان ينقص أحداث الربيع العربي، فما يزيد الأمر صعوبة على الذات العربية في هذه التجربة التي ستخرج منها أكثر نضجاً في نهاية الأمر، هي تلك التدخلات الخارجية لإفشال هذه الأحداث، واللعب بأوراقها وجذبها لتتماشى مع مصالح تلك الأيادي الأجنبية، فنحن في عصر العولمة وما بعد الحداثة، ويجب أن نعي هذا الأمر، سواء أحببنا ذلك أم كرهناه. فالتاريخ لا يحمل قلب الأم، ولا يرحم، ولا يعود للوراء. إن التاريخ لا يعيد نفسه سوى في ذهن الحمقى.

ومهما يكن من الأمر، وبصرف النظر عن تشرذم المواقف حول الربيع العربي، فإنه لا يخفى على البعض أن أهم شيء أحدثه هذا الربيع على صعيد الأيديولوجيات العربية هو خلخلة وجاهة بعض مفاهيمنا، وتحريك المياه الراكدة، حيث تتبدل وتتغير كثير من فهومنا النمطية عندما نرى التقدمي أصبح رجعياً، والعلماني يغازل علناً الأصولي الذي ينتمي لطائفته، والسلفي أصبح فجأة ديمقراطياً وحداثوياً، والوطني يتهم بالخيانة، ليمثل دوره الخائن، فهذه الشيزوفرينيا ضرورية للعقل العربي الذي اعتاد وضع الأمور في قوالب محددة، ظناً منه أنها أبدية ولا تتبدل كعقيدة سياسية، فكان حقاً على العقلية العربية أن تعيش هذه الفوضى الخلاقة، فوضى تعيين مفاهيم الحرية والعدالة والديمقراطية وجميع مكونات هذه العقلية، ولكي تعي بعد ذلك ضرورة الإيمان بقيم هي شيفرات ثورية، وليس بقوالب جاهزة، وتصنيفات محددة مسبقاً.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.