شعار قسم مدونات

لماذا لا نغيّر رأينا بسهولة؟!

مدونات - نقاش
الكثير منَّا يكون معانداً تجاه الأفكار التي يؤمن بها، أو تلك التي يعتقدها، أو التي قد توصَّل إليها بعد بحثٍ أو تبناها من خلال التجارب التي مرَّت به في أيَّامه القصيرة التي عاشها، ويصعب عليه تغييرها إذا ما تبين له أنَّها غير صحيحة من خلال النقاشات التي يجريها مع أقرانه حتى لو كانت هذه الأفكار مجرد آراء أولية كونها حول حادثة أو خبر ما يتداوله المجتمع، أو قضية معينة هي محل نقاش في العمل أو الحياة بشكل عام.

وغالبا ما يتمُّ تغيير الآراء بشكل فردي بالطريقة نفسها التي تكوَّنت بها من خلال التعلم، أو معاينة تجارب أخرى تثبت أنَّ ما توصلنا إليه في الماضي كان غير صحيح، وطبعاً هنا أصرُّ على كلمة غالباً لأنَّ هناك حالات تُفلِتُ من هذه المعادلة على قلتها، لكن يبقى تغيير الرأي في النقاشات أو الحوارات أو المناظرات أو حتى التبادل السلمي جداً للآراء هو من أكثر الحالات عقماً في سبيل إنتاج قناعات جديدة.
من خلال تجربتي الخاصة، والاطلاع على بعض التجارب الأخرى حولي، وحضور هذا النوع من المناقشات، تبين لديَّ أنَّ السبب الأساسي في عدم نجاعة الحوارات والنقاشات عمومًا في تغيير وجهات النظر أو الآراء أو القناعات يرجع إلى طبيعة هذه الحوارات في مجتمعاتنا، والتي تأخذ دائماً شكل المنافسة والربح والخسارة والانتصار والهزيمة.

علينا أن نكون أكثر انسجاماً مع أنفسنا ومع الآخرين حينما نتعرض للنقاشات، ونسعى من أجل استدراج الحقائق بصيغ مشتركة ترضي الجميع، ونسعى لجعل نظرائنا يشاركون في استنتاجها بدلاً من هزيمتهم للوصول إليها.

هذه الطبيعة تجعل عوامل عدّة نفسية وعقلية تتكاتف من أجل عدم الاقتناع بالرأي الجديد مهما كان صواباً، والإصرار على القديم مهما كان مدمراً أحيانًا.  إنَّها تخلق نوعًا من العناد الذي يحاول إثبات الذات والقدرة على المواجهة قبل كلِّ شيء، خاصة عندما يكون الرأي المخالف يصدر عن نظير وليس عن معلم، وما يجرُّ ذلك من الحرص على الغلبة والتفوق وإثبات الأفضلية والخبرة، التي تزداد عندما يعرض النقاش أمام الناس أو في مجموعات ومنتديات التواصل الاجتماعي، والتي يبدو فيها الحرص على التفوق وعدم الخسارة مضاعفاً، مهما وصل النقاش إلى عقم أو سفسطة أو شخصنة، أو انتقل إلى موضوعات جزئية بعيدة عن الموضوع الأصلي..

ويبدو ذلك في مجتمعنا السوري على الأقل ثقافة رائجة أكثر منها حالات فردية، لا يتخلص منها أحياناً كبار الشخصيات في العِلم والسياسة، إلَّا بعد المرور بهزائم متلاحقة في الواقع التطبيقي، وليس فقط على مستوى النقاشات، نتيجة التمسك بآرائهم، وكثيراً ما تكون هذه الهزائم مدمِّرة، ومحبطة. مما يجبره على التروي والانتصار للصواب بدلاً من الانتصار للذات،

مرَّة أخرى تتعرض النخبة لهذه الإشكالية أكثر من العامَّة لشعورهم بالتفوق الدائم والقدرة على التكيف، بينما يكونون الأكثر اعتداداً بأنفسهم وقناعاتهم مهما كانت خاطئة، لأنَّها توافق النظرية التي يؤمنون بها، مهما كانت هذه النظرية مستحيلة التطبيق.

للخروج من هذه الإشكالية ببساطة علينا أن نعيد صياغة واقع النقاشات كثقافة، بحيث لا تحمل سمة الفوز والخسارة، بل تحمل سمة التشارك والبحث للوصول إلى النتيجة قبل أن تكون آراء متضاربة، ولتصبح عبارة عن فرضيات مطروحة من البداية، تسعى للوصول إلى الحقيقة، وليس إثبات صحة وجهة نظر أو رأي، فنحن غالبا لا نتعرض لمناظرات وجودية، لكي نحارب في أي نقاش لإثبات صحة ما ندعيه، ولنعلم أنَّ كثيرًا ممَّا ندَّعيه ونعتقده ربَّما يكون غير خاضع للتجربة الكافية، ونجاح أو فشل شيء معين لمرة أو مرات متعددة ليس دليلاً كافياً على صحة أو عدم صحة هذا الشيء، فقد تكون الظروف هي من لعبت الدور الحاسم في ذلك.

ليست الحقيقة مكونا باتجاه واحد، بل هي غالباً عبارة عن منطلقات متعددة الاتجاهات، تصيغها الظروف والممكنات، وطبيعة البشر والمجتمعات، ولا يجب أن نفكر دائماً أنَّ الحقائق هي عقائد من الصعب التخلي عنها، لأنَّ العقائد على تنوعها هي أشياء أخرى مختلفة تماماً بعضها يستند لحقائق، وبعضها الآخر لا يستند إلا إلى إيمان الناس بها، وتكون هذه الحقيقة هي الأساس الوحيد الذي تتَّكِل عليه العقيدة في وجودها.

علينا أن نكون أكثر انسجاماً مع أنفسنا ومع الآخرين حينما نتعرض للنقاشات، ونسعى من أجل استدراج الحقائق بصيغ مشتركة ترضي الجميع، ونسعى لجعل نظرائنا يشاركون في استنتاجها بدلاً من هزيمتهم للوصول إليها، فعلى الأقل هناك قناعة صحيحة الآن، وهي أنَّه لا يوجد أحد خاسر إذا وصلنا إلى فرضية حقيقية مهما كانت هذه الحقيقة قاسية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.