شعار قسم مدونات

ضربة في الوعي

blogs - موبايل

كان سهلًا عليه أن يُمسك كاميرا هاتفه، ويبدأ الحديث في موضوعٍ يُعيبُ فيه على النساء التسوّق لأوقاتٍ يتأخرن فيها بالليل، وأسهل على آخرٍ أن يُطل على سناب شات يُعيب على المرأة ملابسها في ظل ارتفاع درجات الحرارة، وأكثر من سهلٍ على أخرٍ أن يُدرج ألبومًا لأطفالٍ ضحايا لقوا مصرعهم في حادث سير مروّع ليشارك صورهم مع أصدقائه دون مراعاةٍ لمشاعر أقربائه. وكان ظريفًا لشابٍ أن ينشر مقطعًا يُمثّل فيه أنه ميّت ليرصد ردة فعل أمه التي أفجعها قبل أن تعرف أنه تمثيل، ومضحكًا لشابٍ يقدم برنامج كاميرا خفيّة يرصد ردة فعل الناس بعد أن يوجّه لهم " مسبّة " بداعي التجربة الاجتماعية. وهذا نقطة من بحر ما يؤذي، ويتلاعب بعقول البشر ومشاعرهم على شبكات التواصل.

ولم أذكر تلك الأمثلة لأناقشها، بل متسائلًا "ألهذا الحد باتت التكنولوجيا تضرب في وعينا الخفّي وتُحركه لنصوّب الكاميرا تجاه وجوهنا، ونبدأ الحديث في موضوعاتٍ حساسةٍ بُغيّة أن نلفت الانتباه على ساحة العالم الافتراضي لا بغية أن نناقش بُلطف ونبحث عن إجاباتٍ، بُغية أن تزيد عدد المشاهدات لا أن تصل الرسالة؟".

ساءني مؤخرًا فكرة أن يهنئ المرء الآخر عبر حسابات التواصل بصورٍ جاهزةٍ أو نغماتٍ أو تسجيلاتٍ دون أي حرفٍ منه فُيلقيها في صندوق رسائله، ناسٍ أنه لا حلاوة تُعادل حلاوة الكلام الخارج من المرء إلى الآخر القريب أو البعيد حتى لو كان غيرٍ مُرتبٍ أو قصير، في ترجمةٍ لما تحاول التكنولوجيا زرعه داخلنا. لتنزعْ متعة الخارج من القلب، فتُفسد كل شيء، وتجعلك ترضى بالجاهز من بطاقات التهنئة والصور.

لنعلمهم أن الضربة في الوعي أشد ألمًا وأكثر عمقًا وأثرها أطول عمرًا من الضربة على الوجه، أن ما يبدو لنا قد لا يكون في الحقيقة هو، وأن العامة متى ما انجذبوا إلى أمرٍ وصاروا يتحدثون فيه لا يعني بالضرورة أن نتحدث فيه.

وكثيرة تلك رسائل التهنئة الجاهزة التي وصلتني من أصدقاء مقربين، وفور تناولي للمحة عن الموضوع على حسابي الشخصي في فيس بوك، أعاد بعضهم مشكورين إرسال تهنئةٍ أخرى قريبةٍ من القلب. تهنئة بحروف طازجةٍ دافئةٍ صادقةٍ خارجةٍ من القلب.

وكما يُسحرك نص أو صورة أو لوحة أو مقطوعة، ذات السحر أيضًا تجده في محادثة رائعة ترغب من فرط جمالها أن تشاركها مع العالم كله. ذلك لأن للحروف قدرة على التشجيع كما العرقلة، على التعافي كما المرض، على الأذى كما رفعه، على الإهانة كما الود والوصل.

ذلك أيضًا يدعونا لنتنبه لتلك الكلمات المؤدية التي تتسرب لقواميس أطفالنا دون وعي، لدرجة يحسب معها الطفل أن تلك الكلمة سلاحه حين لا يروق له طفل آخر أو موقف، فيكبر وتكبر معه تلك الكلمات، فلا تكاد تغادر تعليقًا منه إلا وفيه من الأذى الكثير، وهذا يعكس جانبًا مما نراه في كثيرٍ من تعليقات صفحات التواصل الاجتماعي.

يدعونا لنعلمهم أن الضربة في الوعي أشد ألمًا وأكثر عمقًا وأثرها أطول عمرًا من الضربة على الوجه، أن ما يبدو لنا قد لا يكون في الحقيقة هو، وأن العامة متى ما انجذبوا إلى أمرٍ وصاروا يتحدثون فيه لا يعني بالضرورة أن نتحدث فيه، وأن لا نناقش في خصوصيات الآخرين بداعي الفضول.

وحين لا تروقهم ترجمة ما أن يقدموا ترجمة أفضل، حين لا يروقهم حديث ما أن يوضحوا السبب، أن اللطافة لا تُكلف شيء لتظهرها كما الابتسامة والكلمة الطيبة. أن لا نجعل أحدًا يُسيّرُ وعينا بمجرد حديثه -الفارغ- المُلفت للنظر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.