شعار قسم مدونات

"قُصير عمرة".. استهتار الأمناء في الأردن

مدونات - قصر عمرة
قبل عدة أعوام نظمّت جهة ما في الأردن رحلة إلى "قُصير عمرة" في قلب الصحراء الأردنية، ثمن الرحلة لم يتجاوز حينها الثمانية دنانير تشمل التنقل والدليل السياحي والوقوف على عدة معالم أخرى في طريق مقصدنا، لم أكن أملك رفاهية الدنانير الثمانية لزيارة معلم أثري أبان تلك الفترة. ونظرًا لموقع المعلم في مكان موحش بعيد، فإن التعثّر برحلات مماثلة أمر نادر الحدوث.

مرّت السنوات وأصبح بمقدوري زيارة كل مكان شغلني يومًا ما على الخارطة الأردنية، وفي رحلتي الأخيرة إلى عمّان هاجمني وحش الأرق حتى ساعات الفجر الأولى، غالبته بالنهوض نحو العربة دون خطة مسبقة، وجدتني على غير هدى أسير في طريق حدودي طويل وكأني أعود إلى الرياض برًا. اللافتات الزرقاء على جانبي الشارع تشير في تتابع إلى دنو معبر الكرامة على حدود العراق.

وجدتها إذا فرصة سانحة للوقوف على ثلاثة معالم أثرية أهمها "قصير عمرة"، الطريق قادني للمكان حتى كسرت معه عتبة الخوف من وحشة السكون. ما الذي جعلني أتوق للقاء به؟ إن مكانة هذا المعلم تتضاعف لدى المهتمين بتاريخ إسبانيا على وجه الخصوص لسبب رئيسي، أوله أن هناك زعم بأن باني القصر هو الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك، والذي غزت في عهده الجيوش شبه جزيرة آيبيريا مؤسسة لما عرف لاحقًا بإمارة "الأندلس"، لكن حسبما أفادني الدكتور عبدالله معروف فإن باني القصر هو الوليد الثاني بن يزيد بن عبدالملك نسبة لنص كشف مؤخرًا قطع الشك باليقين مكتوب فيه " اللهم أصلح عبدك الوليد بن يزيد.. الخ" . يشار أيضًا أن القُصير قام بترميمه علماء آركولوجيين من المتحف الوطني الإسباني في مدريد قبل فترة ليست ببعيدة.

القُصير يقع في مكان مفتوح يرتبط بمتحف صغير على الأرجح وغرفة استقبال، الغرفة كانت مفتوحة ولا يوجد فيها سوى حشرة ميتة يتقاذفها مجموعة من القطط تحت سرير حديدي على الأرجح لحارس المكان.

كما يزداد رصيد "قُصير عمرة" بسبب الجداريات المدهشة المرسومة هناك وفي وقت مُبكّر جدًا من عمر الإسلام أو ما يسمى بـ "عصور الخلافة الأولى". فهو المعلم الوحيد من المعالم الأموية الذي مازال محافظًا على جميع رسوماته الفنية أو ما يعرف بالـ "فريسكو".

يحفل المكان بصور لزخارف وحيوانات تعزف ومشاهد صيد وأجرام سماوية، لدرجة أن بعض الآركولوجيين يصنف تلك الرسوم بأنها الأقدم على الإطلاق في تصوير الأبراج الفلكية على سطح كروي، أعني قبة الحمام المستلهم من نسق معماري رومانيّ على الأرجح. كما يشهد جنبات القصير صوراً لنساء عرايا، وأخرى بدلالات إباحية، أحدها جسّد لأنثى قد تكون آلهة إغريقية نظرًا للتأثر بالانفتاح الثقافي مع "الفتوحات" العسكرية، في حين يرى آخرون أنها على الأرجح إحدى عشيقات الخليفة في قصر الاستجمام الصحراوي هذا.

ويعدّ بعض الباحثين المكان برهان لدحض التصوّرات الدينية التي تقول بأن الإسلام لم يسمح بالتجسيد والتشخيص في الفنون. ولذا يحاول الكثير من المؤدجلين الذين يبحثون في التاريخ نفي هذه الرسومات عن العصر الأموي بذرائع واهية لتفنيد معتقداتهم بدلًا من مواجهة واقع لا يمكن تجاوزه أو جعله استثناء. الجدارية الأهم في قُصير عمرة هي لستة ملوك يقفون متجاورين قرب بعضهم، نُقشت أسماءهم باللغتين الإغريقية والعربية، وذاك شاهد آخر على عمق "الاستلاب" أو ربما تأثير الثقافات الأخرى مع التوسّعات العسكرية كما أشرنا.

من هم الملوك الستة؟ أباطرة ذلك الزمان وألد خصوم الدولة الأموية. على رأسهم رورديك أو "لوذريق" كما عُرف بالمراجع العربية، هو ملك القوط الذي هزمته جنود الأمويين في معركة "فتح الأندلس". إلى جانبه يقف النجاشي وهو الاسم الذي يطلق على ملك الحبشة، يليه إمبراطور الصين و"الخاقان" التركي، والحاكم الساساني الفارسي والإمبراطور البيزنطي. يجدر الإشارة أن "قُصير عمرة" جزء من طريق المسلك الأموي، وهو مشروع أطلق بتمويل من الاتحاد الأوربي، ينشط في الدول التي عكس الأمويون فيها ظلالهم في محيط البحر المتوسط والثقافة الأورومتوسطية، شاملة نطاقًا جغرافيًا ممتدًا من إسبانيا والبرتغال وحتى بلاد الشام مرورا بمصر وإيطاليا وصقلية وسواهم.

قصر الحرانة، قصر أموي يقع في الصحراء الأردنية (مواقع التواصل)
قصر الحرانة، قصر أموي يقع في الصحراء الأردنية (مواقع التواصل)

وصلت في تمام الساعة السابعة والنصف إلى مقصدي، لا يوجد أي إشارة لموعد استقبال الزوّار ولا حتى عبر الإنترنيت، خمّنت أن تكون الثامنة وفي أسوأ الأحوال التاسعة، انتظرت حتى قرابة العاشرة ولم يأت أحد! حاولت التلصص على المكان بحذر، القُصير يقع في مكان مفتوح يرتبط بمتحف صغير على الأرجح وغرفة استقبال، الغرفة كانت مفتوحة ولا يوجد فيها سوى حشرة ميتة يتقاذفها مجموعة من القطط تحت سرير حديدي على الأرجح لحارس المكان، ضقت ذرعًا وأنا أنتظر فسمحت لنفسي تقليب كُراسة الحارس عليّ أجد موعدًا مكتوبًا لفتح المزار المغلق عن بكرة أبيه.

إيطاليا، اليونان، ألمانيا.. دول أخرى من أقصى الغرب، هذه جنسيات القادمين إلى المكان، تواقيعهم وأسمائهم وتواريخ الزيارة جميعها مدونة دون أي دلالة لموعد الوصول، لا يوجد أي عربي بين الأسماء، ربما لا تسجّل أسماء العرب الزائرين. الزمن يمرّ بطيئا خاصة مع انقطاع شبكة الإنترنيت في مكان معزول كهذا، أشعر بالعطش لا يوجد حتى صنبور مياه، على حافة "قصير عمرة" خيمة لبدو يبيعون بعض التذكارات للسيّاح، ألمح ظلّاً لبعض النائمين في الداخل.. أنادي بصوت عال عليّ أوقظ أحدهم طمعًا بكوب ماء، لا حياة لمن تنادي. كل الأسئلة والاحتمالات تدور في رأسي وأنا أعاتب نفسي على القدوم هنا لوحدي. فتحت الثلاجة الموجودة على طرف المكان، تناولت ماءً ووضعت دنانير بدلًا عنه. فليغفروا لي إن قرأوا هذا النصّ يومًا ما.

بعد طول انتظار جاء من بعيد حارس أسمر اللون طويل القامة، يسألني ما الذي أتي بي هنا "بدّي فوت للقصير عطوفتك"، "ولا يهمك.. خدي المفتاح"! هكذا في أقل من نصف دقيقة ودون أن يسألني عن اسمي ولا من أين أتيت، سلّمني مفاتيح القصر الأموي كسلًا حتى لا يضطر للمسير مسافة قصيره نحوه في لهيب شمس الصباح، سألته "هل تعرف من أنا لتسلّمني مفتاح المعلم الأثري بكل اطمئنان، هل تعرفني؟" "آه.. إنتِ من بنات البلد مش هيك؟" نظرته اللامبالاية كانت تقول إن شئت أخذت المفتاح لفتح القصر بنفسك أو عودي أدراجك بكل هدوء!

أجابني بهدوء تام: إذ لم يكن للإنسان قيمة أصلًا، فما نفع العمران كل العمران؟ لا قيمة للبشر قبل الحجر فما جدوى الهذر؟ انتهت المكالمة وانتهى وصلي بالمكان.

حملت نفسي على الذهاب وأنا أمنّيها بأن تكون المفاتيح كذبة طمعًا بأن ألمس حرص الأمين عليها، لكني فوجئت بأن هذه المفاتيح التي بيدي هي للمعلم الأثري فعلًا، فتحت الباب الكبير الموصد بمغلاقين وإذ بي أمام الصرح الفاتن حيًا متجسّدًا أمامي. لم تكتمل دهشتي في المكان أمام العبث الماثل فيه بفعل "أولاد البلد" والحرّاس الذين لا يأبهون بأحد، تحوّل القُصير إلى كراسة ذكريات حفر فيها أسم كل زائر وعشيقته أو عشيرته مع تاريخ تواجدهم في كثير من الأحيان، قُصير مشوّه بالكامل من أسفله إلى أعلى قبة فيه، كل النقوش الثمينة والرسوم التي لا تقدر بثمن عبث بها العابثون بفضل استهتار أمناء المكان اللاهين. على الأرض مكنسة، الكثير من الأتربة والأوساخ.. فوضى في كافة جنباته وكأن هذا القُصير الذي "يشدّ له الرحال" مزبلة.

حاولت بين كل هذا الاعتداء التركيز في معالم المكان، عكفت أبحث عن المعالم التي وصفت في قراءاتي حوله، الدب الجميل الذي يحمل عودًا موسيقيًا ويغني، أو عن رحلة الصيد المرسومة، أو تلك السيدة التي تحاكي صورة العذراء. لكن هيهات أن تقدر على الاستمتاع بالمكان وأنت تلحظ عيانًا كل النزف العالق في جدرانه. التقطت ما يكفي من الصور ثم خرجت بعد ساعة من القُصير، سلّمت المفاتيح لحارس المكان دون أن أتفوه بكلمة، اتصلت بدائرة الآثار والسياحة بعدها طويلًا، ولم يجب أحد، يبدو أن عامل الهاتف في إجازة ما!

توجهّت لقصر الحرّانة المتاخم له، وهو قصر أموي صحراوي آخر، كانت الساعة تشير للحادية عشرة ونيف، لم يكن هناك أحد ولا حتى حارس كريم يجود عليك بمفاتيح المكان! هل شعرت بالخيبة؟ قطعًا لا. يبدو أن هذا واقع علينا تقبّله وبلعه في دين جديد. في طريق العودة اتصلت بصديق أخبره بحرقة عمّا شعرت به من امتهان للأمكنة، عن غياب الوعي بقيمة الكنز الأثري، عن الأسى على مآلات التراث في بلادنا. تركني أهذي لساعة ثم أجابني بهدوء تام: إذ لم يكن للإنسان قيمة أصلًا، فما نفع العمران كل العمران؟ لا قيمة للبشر قبل الحجر فما جدوى الهذر؟ انتهت المكالمة وانتهى وصلي بالمكان.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.