شعار قسم مدونات

اللطافة..كلمة سر سويدية

blogs - علم السويد

"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ..فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا".

أعترف أنني لم أكن أستطيع فهم هذا البيت الشعري لأحمد شوقي على بساطته؛ فقد كنت أعيش في وسط عالم عربي يموج بالتيارات المتصارعة واللوبيات داخل المؤسسات نفسها، والتي يحقق بعضها -على سوء خلقه- نتائج ونجاحات، كانت تشوش على المعنى العام لهذا البيت الشعري في مخيلتي، إلا أنّ لقراءته من جديد في السويد معانٍ أخرى!

فالأخلاق ليست ترفاً، إنها سمعة تجارية عالمية، وسمة لا يمكن أن يحيد عنها كل فرد في المجتمع، إنها قوام وطن جميل نظيف، يعتني بالمواطنين، ويقدم لهم الخدمات الكريمة، وطن يسوده التفاهم ولا يقمع الناس لأفكارهم وآراءهم، وطن وضع نفسه وجهاً لوجه مع تحديات الناس وهمومهم!

أول ما لفت انتباهي في هذه البلاد بعد وصولي، عدم قبول البائعين لعملة (اليورو)، في مدينة صغيرة لا يوجد فيها إمكانية تحويل النقود، ما جعلني في حيرة كبيرة من أمري، ورسخ في مخيلتي مدى انضباط الناس، فقد جرى استفتاء قرر فيه المواطنون العمل بالعملة المحلية (الكرونة)، مما جعل عملتهم مستقرة بعيدة عن تأثيرات تغيرات السوق. 

من المألوف أن تحتضن الأم أطفالها في وسط الشارع، وأي مكان، فالحنين والحب لا يعرف وقتاً محدداً ولا مكاناً محدداً في الثقافة السويدية
من المألوف أن تحتضن الأم أطفالها في وسط الشارع، وأي مكان، فالحنين والحب لا يعرف وقتاً محدداً ولا مكاناً محدداً في الثقافة السويدية
 

أبتدئ بالأخلاق في السويد بين الجيران، التحية بادئ الأمر مهمة جداً، وفي الأرياف بإمكانك إلقاء التحية على الناس حتى ولو لم تعرفهم، فعند المشي يجب أن تنتبه الى أن فضلات حيوانك الأليف المرافق، أنت وحدك ملزم بحملها.

احترامك للوقت والوعد مهم جدا هنا، كما الاتصال قبل القدوم لزيارة الأصدقاء وخلع المعطف والحذاء عند الدخول، كما يجب أن لا تزعج الجيران بأي شكل حتى بفتح الصنبور كثيراً إذا كنت تسكن الطوابق العليا، وبالأخص بعد الساعة العاشرة مساءً، كما يُمنع التدخين في المنازل منعاً تاماً في عموم البلاد، ومستشعرات الحريق جاهزة لالتقاط الروائح.

في العمل في المنشآت السويدية؛ يبدو واضحاً أن الموظفين من أعراق مختلفة يشغلون مناصب ظاهرة، حتى ترسل إشارات واضحة للعملاء أن الشركة ضد التفرقة العنصرية، هذا الأمر يؤثر على عامة الناس، فيرون الاختلاف فيما بعد أمراً رائعاً في غالبهم، في العمل تلقي التحية ولا تتدخل في الخصوصيات، الجميع تيار واحد مسالم، السلام قد يكون بالعيون أحياناً في الكوريديرات (الممرات)، فتكاد لا تسمع أصواتاً عالية إلا بعض الضحكات التي تنم عن سعادة الموظفين والمراجعين.

كما العناية بالموظف الجديد ومراعاته وتعليمه حتى يقوى بنفسه على العمل أمر غاية في الأهمية لجميع الآخرين في المؤسسة، فمن تجربتي في عملي لمدة سنة ونصف في البلاد؛ لم أسمع أن موظفاً تحدث بسوء على زميل له أو على عمله أو شخصيته، فالصدق يثمن عالياً ولا وقت للكذب والغش.

من المألوف أن تحتضن الأم أطفالها في وسط الشارع، وأي مكان، فالحنين والحب لا يعرف وقتاً محدداً ولا مكاناً محدداً في الثقافة السويدية، كما أن النظر في عيون الأشخاص وإعطائهم أكبر قدر من الاهتمام، مهم جدا، وهو من الآداب في التعامل مع المدرسين والآباء، قد يبدو غريباً أنه بإمكانك مناداة الأستاذ باسمه والأم باسمها المجرد من أي لقب وحتى دكتور الجامعة! وهو تغير حصل في المجتمع مع الأجيال الجديدة بغية كسر الفوارق بين الناس.

undefined

الهدية بين الناس على بساطتها عمل لطيف ويلقى تقديراً أيّما تقدير، ولو كان قطعة صابون مميزة وصغيرة، فكل شيء يجب أن يتم بشكل لائق في السويد، ومن إكرام السويديين لمن يسدي إليهم معروفاً أن يحتضنوه ويضعوا خدهم ملاصقاً لخدِّ الشخص الذين يحبون تقديره.

أخيراً وليس آخراً، عندما تُدعى إلى وجبة طعام، التزم الدور، وتذكر الإسراع قدر المستطاع؛ فإحساسك بالآخرين يعطي حيوية شديدة للدور الذي ينقضي بسرعة تلفت الانتباه، لشدة انضباط الناس.

أستطيع سرد المزيد والمزيد، إلا أني أحب أن يبقى القارئ مستمتعاً بما أُعرِّفه به من عادات وأخلاقيات، ودون الخوض في وجهات النظر الأخرى في التركيز على السلبيات على قلتها أو الخوض في ما وراء بعض التصرفات من فلسفة نفعية، راجياً الله أن تكون نهضة على بصيرة لأمتنا، وفجراً جديداً قادم حتماً!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.