شعار قسم مدونات

نقد التمثلات الخاطئة حول القانون: القانون والأوكتوريتاس (2)

blogs تمثال العدالة

يعتقد بعض الأمنيون -أي نسبة للذين يتشبثون بالأمن القانوني- بأن القانون لا يخترق، بل هو طبقا لمبدأ الكفائية، يجب أن يطبق حرفيا من خلال تضمينه مفاهيم ثابتة لا يستطيع القاضي أو كل متعامل مع القانون ممارسة التأويل عليها، وهذا القول-الادعاء لا يصح في مجمله، لإن ثبات المفاهيم إنما يجعل القانون غير مسايرا لتطور الإنسان. فالطبيعة البشرية بطبعها متطورة جدا، وهذا التطور ليس تطورا في الأمور المادية فحسب وإنما هو مظهر عام، قد يكون مضمرا في النفس البشرية وفي عقله أيضا، فالتطور مصدره العقل نفسه، إذ العقل هو محصلة التطور، فالإنسان العاقل لا يمكن ضبط سلوكاته بقانون ثابت.

ولما كان القانون كالظل يساوق الشخص القانوني، فإنه يجب أن يحترم الشخص وأن يتبعه، فالأصل هو الشخص لا القانون، لكن هذا الأخير لا يستطيع مواكبة الأشخاص القانونية، وعدم المواكبة تكمن في ضعف في القانون وليس العكس، كما يدعي بعض الأمنيون الذين يرون أن القانون عموما والقانون المغربي على وجه الخصوص جاء متطورا والحياة الاجتماعية متخلفة عنه. هذه المسلمة غير واقعية، بل قل أنها تنم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على أيديولوجيا كلونيالية تلغي ثقافة وعادات المجتمع بدعوى التوحيد، وهي نزعة قد غالت في التوحيد حتى أصبح المجتمع بدون إرادة في صناعة والتفاعل الإيجابي مع التشريع.

لقد اعتنى التراث القانوني الغربي بمسألة انفصال القانون والحياة، وجعله هذا الاهتمام ينتج نظريات تحاول أن تقرب بين هذين العالمين المنفصلين (حالة الاستثناء (الفيلسوف الكارل شميت) – نظرية الضمان (الفكر القانوني الروماني) – نظرية الخرق الفعال للعقد (القاضي الأمريكي هولمز). رغم تطبيقها السيء في كثير من الحالات خصوصا لما اقتبسته بعض الدول كالمغرب.

نص الفصل 107 من الدستور المغربي على ما يلي:
نص الفصل 107 من الدستور المغربي على ما يلي:" السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية. الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية".
 

والذي أنتج خطابا قانونيا قاسيا لا يخاطب الروح والنفس البشرية، حتى أنه لا يخاطب العقل، بل يخاطب الجانب الآلي في الإنسان، ويمكن أن نسمي اليوم تعامل القانون مع الإنسان ب"تعامل الآلة"، "… باعتبار القانون أداة تتوسط بين الإنسان وتمثلاته، أكانت التمثلات الذهنية (كلام) أو المادية (الأدوات)، فإن القانون يؤدي بذلك وظيفة دغمائية في التوسط والمنع. وهذه الوظيفة التي تمنحه مكانة متميزة في عالم التقنيات إنها تقنية أنسنة التقنية …" (ألان سوبيو، الأنسان القانوني، ترجمة عادر بن نصر، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، ط 1، 2012، ص. 211.)

والبحث في التراث الروماني يقود إلى مفهوم يعبر عن حالة هذا البون الشاسع بين القانون والحياة، هذا المفهوم هو؛"الاوكتوريتاس"، والذي له وجهين:
الوجه الاول؛ هو نظرية الضمان في القانون الخاص، أو قل محاولة إيجاد شخص قانوني يضمن كل التفاعلات السلبية بين القانون والحياة، خصوصا في المعاملات ذات الطبيعة المالية، فمثلا"… واجب احترام العقد يعني أنه عليك أن تتوقع دفع التعويضات إذا أخللت بذلك الالتزام، نقطة على السطر …" (أولفير وينديل هولمز، مسار القانون، مجلة القانون، هارفارد، عدد 457.)

والوجه الثاني؛ مرتبط بحالة سياسية شهدتها روما، وهي سلطة سياسية استثنائية يتمتع بها السيناتور في تعليق القانون من خلال المرسوم الأخير، ويمكن "… ملاحظة أن السمة الدستورية المستجدة (للحكم) تتمثل في الدمج المباشر لحالة الاستثناء واللاقانون في شخص الحاكم، الذي جعل يتحرر من أي تبعية للقانون ليفرض نفسه ككائن غير خاضع للقانون (legibus solutus)…" (جورجيو أغامبين، حالة الإستثناء، ترجمة ناصر إسماعيل، مدارات للأبحاث والنشر، مصر، ط 1، 2015، ص. 161). 

إذا ما تأملانا القانون المغربي تأملا تأويليا، سنجده يقوم على فكرة الضمان أو الاكتوريتاس من خلال استحضار عدة نماذج:
أولها؛ الفصل 107 من الدستور المغربي والذي نص فيه المشرع بصفة مباشرة على ما يلي :" السلطة القضائية مستقلة عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية. الملك هو الضامن لاستقلال السلطة القضائية".

ويمكن استنتاج تأمل مقاصدي أخفاه المشرع الدستوري، هو عدم قدرة القانون على ضمان هذا الاستقلال أو قل ان المؤسسات التي تمارس مباشرة انفعالها تجاه القانون لا تستطيع ضمان هذا الاستقلال، لذلك يتحول الملك إلى ممارس لهذا الضمان، لكنه ضمان لا يحقق سوى بون بين القضاء والواقع والقانون، لصالح قانون حي ينتجه هذا الضامن الذي يزيد من تعميق حالة الاستثناء كتجلي سلبي لممارسة الحكم، لأنه في نهاية المطاف يعتبر"… القانون؛ ملك وحرف، الأول قانون حي لا معياري، والثاني قانون مدون معياري …" (ارخيتاس (فيلسوف اغريقي)، رسالته، " في القانون والعدالة "). ينتج هذا الفصل المذكور لا معيارية تؤثر في مصداقية القانون والقضاء رغم أنها تحاول أن تشكل صورة منسجمة بين القانون والحياة.

ثانيا؛ رغم ما قلناه فيما سبق أن المفاهيم الثابتة هي ضد في حياة الإنسان المتطورة، فإنه حتى المفاهيم القابلة للتأويل تتحول هي أيضا إلى مجال يقضي على القانون بل يقضي على الحياة نفسها، لما يترك سلطة تأويلها لشخص قانوني غير منضبط مع الواقع.

ويمكن أخد أمثلة كثيرة من القانون الإداري اللا معياري، أي تلك السلطة التقديرية للإدارة التي تمارس تأويلا منحرفا للمفاهيم المركزية في القانون الإداري، من خلال سماح القانون للإدارة بممارسة سلطتها وكان مقصد المشرع تطبيق قانونها الحي الذي سيتلائم من الناحية النظرية مع الحياة، لكن عكس هذا ما يحصل بحيث يصبح هذا القانون الحي ظالما للمجتمع.

يمكن إيجاد بعض النماذج التشريعية في القانون الخاص، والتي تشير إلى ما يضمره القانون من حالات الحرية في الضمان، وهذا ما تنطوي عليه الفصول المنظمة للنيابة الشرعية للقاصر وناقص الأهلية في قانون الالتزامات والعقود
يمكن إيجاد بعض النماذج التشريعية في القانون الخاص، والتي تشير إلى ما يضمره القانون من حالات الحرية في الضمان، وهذا ما تنطوي عليه الفصول المنظمة للنيابة الشرعية للقاصر وناقص الأهلية في قانون الالتزامات والعقود
 

يمكن استحضار قانون نزع الملكية من خلال ممارسة التأويل المنحرف للإدارة للمنفعة العامة حتى أصبحت مضاربا عقاريا وذلك حماية لهذا المفهوم غير المنضبط مع الواقع بحيث نص الفصل 6 من قانون نزع الملكية في الفقرة الثانية بقوله: " … يمكن …" نزع ملكية العقارات الأخرى التيإاذا ما رأت الإدارة أنها سترتفع قيمتها، رغم عبارة التخيير التي تفيدها كلمة يمكن، إلا أنها تنطوي على خطاب مفتوح نحو المجهول، أي نحو لا معيارية في تعامل الإدارة مع المنزوعة ملكيته وقس على مجموع عمل الإداري الذي يتميز في كثير من الحالات باللا معيارية.

يمكن إيجاد بعض النماذج التشريعية في القانون الخاص، والتي تشير إلى ما يضمره القانون من حالات الحرية في الضمان، وهذا ما تنطوي عليه الفصول المنظمة للنيابة الشرعية للقاصر وناقص الأهلية في قانون الالتزامات والعقود، أنها حرية لا معيارية تعطي سلطة لأطراف العقد وفي باقي التصرفات والوقائع القانونية، كما أن المشرع في مدونة الأسرة أحسن عملا في إعطاء سلطة الضمان هذه إلى قاضي تزويج القاصر. لكن تبقى حرية محدودة لا تمكن من تعميق النظر فيمن له السلطة الحقيقية في تأويل القانون ومحاولة فرضه على وقع الحياة، لا على وقع الاستبداد والتسلط. 

ونعتقد أن القاضي، الوحيد القادر على أن يقوم بهذه الوظيفة الضامنة للقانون، لكن بسلطة التأويل، لا بتفسير آلي، يحول القاضي إلى الآلة تغيب العقل والواقع، و(إن) "… أفضل دور للقاضي هو أن يكون سيد الكلمة، وأن يطوع الكلمات لتلائم الغرض محل البحث، سواء كان ذلك عن طريق الفهم الضمني أو النية المفترضة أو ما يمكن أن يطلق عليه الميل صوب العدل …" (اللورد ديننج، ترشيد الفكر القانوني، في تفسير القانون والوصايا والعقود، ترجمة هنري رياض. دار الجيل، ط 1، 1981، ص. 91.)

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.