شعار قسم مدونات

نعم.. الرجالُ لا تَبكي

blog - طفل يبكي

مؤخرا علمت لما النساء تبكي بينما الرجالُ تتألم، ولم يكن ذلك بالأمر الهيّن بل جاءت الإجابة عنه بعد الكثير من التفكير والتعجب التي لا إجابة منطقية لها. لكن لم أكن أعلم أن سؤالي هذا سيُجاوب عليه موقف بسيط لا يتعدى الثلاث دقائق، فهذا الوقت كان كفيل بأن يجيب عن الحيرة التي كانت تدور في فكري من أجل هذه القضية. عبارة قصيرة جاءت لتكون هي المخذى الذي طالما كنت أبحث عنه، جاء كي يرشدني إلى الإجابة الواضحة البينة.

 فذات مرةٍ في زيارة عائليّة سمعت هذه الجملة من أمٍ إلى ابنها حينما اقترف خطأ وأرادت ان تُعاقبه. فَبِمجرد أنه بدأ يبكي صاحت قائلة: "ولدي الرجالُ لا تبكي". سمِعتها ولكني حقاً لم أكن أعلم لماذا يُحرم على الرجل البكاء. هل هذا خطأ يستحق أن تصيح فيه بهذه الطريقة كي يتوقف عن البِدء فيه حتى؟ أم أنّ مجتمعِنا الشّرقي هو من يحتّم على الرجال بأن البكاء ضعف لا يليق بهم؟ ولماذا لم أجد من يبادر في محاربة هذه الآفة وهذا المرض الخبيث الذي لا يُعالج بالدواء بل بحاجة شديدة لعقولٍ واعية نيّرة ومثقفة بما تحمله الكلمة من معنى؟ فأي شريعة هذه التي تقتضي بأن البكاء ضعف ومهانة للرجل؟ ومن الذي اختلق هذه الجملة واقترف هذا الخطأ ودسَّ هذ الفكرة الباهتة الظالمة بأن الرجال لا تبكي؟

النبي كان أكثر البكّائين رغم أنه غُفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لذا فالرجال تتألم كما تتألم النساء وتشعر بما يشعرن به من همٍّ وحُزن وضيق

الله عز وجل يقول في كتابه العزيز: "وأنه هو أضحَك وأبكى". لم يعطي منحة البكاء لجنسٍ دون الأخر بل عمّمهُ على سائر المخلوقات. فلماذا نحن نختلق قضايا لا جذور لها ولا مرجعية صحيحة لها لا من كتابٍ ولا من سنة؟ لذلك فإن قوانيننا الصارمة هي التي ترغمهم على فعل ذلك من إخفاء للبوح والدموع والآلام التي من حق كل إنسان على هذا الكون إظهارها. فالدموع منحة للإنسان كالدواء يعطيها الله سبحانه للمخلوق كما يعطيه الابتلاءات والمصائب، ولأنه الله سبحانه يعلم ما يمر به الإنسان من وهنٍ ومن مرارة الحزن وقسوته. يعطي الدموع كي تخفف عنه وتكون دواءً للمشاعر الممتلئة بالعناء.

 

فمن أوجد هذه الجملة الشحباء بأن الرجال لا تبكي؟ بل والله الرجال تتألم، وبحاجة ملحة إلى البكاء. فَنحن نجد السابقين من الأنبياءِ والرسُلِ بكوا في المِحَنِ والشدائد، بكوا خشيةً وخوفا من الله، بكوا على فراق الأحبة والأهل، ولم يكن ذلك ضعفا بل هو فطرة الله التي فطر الناس عليها دون تمييز لجنسٍ على الآخر. نجد النبي عليه الصلاة والسلام في قول سيدنا عبدالله بن عمر: "لأن أدمع من خشية الله أحب إليَّ من أن أتصدق بألف دينار". قال يزيد بن ميسرة: "البكاء من سبعة أشياء: البكاء من الفرح والبكاء من الحزن والفزع والرياء والوجع والشكر، وبكاء من خشية الله تعالى".

 فالنبي كان أكثر البكّائين رغم أنه غُفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، لذا فالرجال تتألم كما تتألم النساء وتشعر بما يشعرن به من همٍّ وحُزن وضيق. لهم الحق في أن يتخلصوا من بركان الهموم هذا الذي يملؤ قلوبهم من ضَجر الحياة ومشقاتها. لهم الحق في نعمة الله على الإنسان بأن يبكي ويذرِف دموع الألم؛ كي يستطيع تحمل مشاق هذه الحياة وكبدها. الله أدرى بلوعة الحزن وثقل العناء الذي نواجهه جميعا. لذلك خلق لنا الدموع كي تخلصنا من جميع الأثقال المُحملة في قلوبنا؛ كي نبوح من خلالها عن الزخم والشتات الذي لا نستطيع التعبير عنه ولا التخلص منه سوى بالدموع.

القوة الحقيقية هي الإيمان الداخلي والسلام النفسي الذي يشعر به الإنسان مع كل دمعة تذرف من عينيه بعد كل هزيمة أو ألم يمُر به

فالرجال أيضا تتألم من فقد عزيز وتجربة قاسية أو فشل وخسارة أطاحت بهم إلى الهلاك. لذلك اتركوا لهم منحة البكاء دون أن تُشعروهم بالذنب. فلم يكن الذنب سوى على من اتهمناهم بأن بكائهم ضعف، فهذه تهمة لم يعرف لها جاني، ولكن الجاني الحقيقي هو نحن الذين وافقنا على أن نتخذ هذا المسار ونخوض في هذا الحكم دون البحث في صحته والرجوع إلى مبدأ الإنسانية التي تؤكد أن الدموع هي من أعظم السمات التي تُشعِر الإنسان بالرحمة واللطف. تشعره بأن لديه قلب يملؤه الرأفة، يشعر بالآخرين ومعاناتهم، ويتعاطف معهم. فهو يبكي من أجلهم ومن أجل أن يخلّص جسده من السموم التي تملؤه إثر العناء والمشقة.

 فإذا رجعنا لفوائد البكاء نجد الأطباء ينصحون به لأنه عامل أساسي في تخليص الإنسان من الأضرار؛ ليهنأ بحياة صحية وطيبة. هذا إن دلّ فهو يدل على قول الله عز وجل: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ). لذا، أرجوكِ عزيزتي لا تُعلّمِ طفلك بأن البكاء هو الضعف، بل لقنيه أن البكاء هو منحة الله لكل إنسان يتخفف به من كل أثقاله وآلامه؛ كي يتورّد النور بداخله في كل مرة تُظلم فيه مشقات هذا العالم. علّمِ طفلك أن الذَكر كالأنثى، يشعر ويتألم ويعاني ويُهزم وينكسر ليس جبلاً لا يؤثر فيه شيء كما علّمونا في مجتمعاتنا الشّرقية.

"لكي تصبح رجلا يُعتمد عليه يجب أن تقتل الشعور بداخلك كي لا تهزمك الحياة"، لكن لم تكن القوة يوماً هي حِكرا على الرجل كي يصبح مُعتمدا عليه. فنسمع عن أبطال القوة من النساء ونسمع عن رجال لا يستطيعون حمل حقيبة سفرٍ حتى. لكن القوة الحقيقية هي الإيمان الداخلي والسلام النفسي الذي يشعر به الإنسان مع كل دمعة تذرف من عينيه بعد كل هزيمة أو ألم يمُر به. ليس حِكرا على أحد بل منحة الله للجميع؛ لذلك أرجوكِ عزيزتي أتركِ طفلك يبكي ولا تخبريه أن البكاء ضعف، بل هو مَصدر قوّته ونبولِه لشدائد الحياة. أرجوكِ لا تقولِ له بأن الرجال لا تبكي، بل استبدليها بقولك له: مِن الدموع تَستَمِد قوّتَك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.