شعار قسم مدونات

المجادلة عنوان الجهل ورأس الخصومة

مدونات - الخلاف
كثير من قراء هذا المقال لن يروق لهم عنوانه نظرا لما يحمله من دلالة تنم عن رؤية خاصة في التعامل مع فني الجدل والمناظرة بغض النظر عن أطرافها ومواضيعها. أبدأ مقالي بمقدمة مفادها أنك إذا رأيت شخصا يحب فن المناظرة فاعلم أنه جاهل. قد تستغرب إلى حد ما من هذه المقدمة وتقول: كيف يخوض معركة التناظر وهو جاهل؟ مع العلم أن الجدال والمناظرة معركة تكون في الغالب شرسة ولا ينتصر فيها إلا الفوارس والأبطال.

لا بد من العودة للاستدلال على هذه المقدمة صحة وضعفا. وهذا يلزمنا بعرض سؤال آخر ومفاده كيف يتم كشف جهل محب المناظرة والمجادلة؟
من القواعد التي ألفناها في مجال البحث والمناظرة أن الهدف والغاية الكبرى من النقاش العلمي هو البحث عن الحقيقة وفي مجال المرجعيات نصر ومناصرة الحق حيث ما اعتقد أنه حق وهذا يلزم منه أن يستسلم أحد المتناظرين عما يدعو إليه بمجرد وجود الحجة عند مجادله. وعادة الذي يستسلم وينصاع للحق يكون هدفه معرفي نبيل ويتمنى أن يصل إليه دون لجاج مع أحد لكن الذي تراه يكثر من الدخول الخصومات والجدال المعرفي في الغالب تراه لا ينصاع للحق لأن هدفه إبراز القدرات العلمية والمهارية مما يدعو إلى الاعتزاز بالنفس والعجب والاستهتار بغيره وخصوصا إذا تغلب على خصمه فسرعان ما تجده يستهزئ به وفي حين ذلك تنكشف سوءة جهله من خلال المظاهر التالية التي تبدو عليه خلال عملية التناظر:

كثير ما يحدث في المناظرة تجد الرجل ينكر الحق لا لشيء إلا لأنه فلان قال به وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على جهل صاحبه، ويوضح لنا المنهج القرآني أن هذا التعامل ينبي عن جهل صاحبه كما حدث مع مشركي العرب.

1- الاستهزاء بخصمه خلال المناظرة: مع العلم أن مقام المناظرة مقام الجد والحرص على إثبات الحقيقة لتبنيها وتمثلها وعند العلماء المسلمين بل المنهج القرآني يقرر قاعدة جوهرية تؤكد هذا المعنى وهي:" أن الهزل والاستهزاء في مقام الجد يدل على جهل صاحبه" وهذه القاعدة مأخوذة من مفهوم قوله تعالى: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ".

2- انعدام الموضوعية في البحث وتغليب العاطفة على اتباع الحق عند ظهوره على يد مجادله وإدخال ذاته في الموضوع المعروض بل قد يحرف الحقائق ويطوعها وفقا لرغباته: ويصرح المنهاج القرآني أن من يغلب العاطفة على حساب الحقيقة يعد جاهلا، ونرى هذا واضحا في الحوار الذي دار بين الله تعالى وسيدنا نوح عليه السلام حينما خاطب الله تعالى قائلا: "رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِى وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ* قَالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِـي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ".

3- مخالفة الحق إن كان مع خصمه: وكثير ما يحدث هذا في المناظرة تجد الرجل ينكر الحق لا لشيء إلا لأنه فلان قال به وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على جهل صاحبه، ويوضح لنا المنهج القرآني أن هذا التعامل ينبي عن جهل صاحبه كما حدث مع مشركي العرب حينما جاءهم الحق من عند الله تعالى على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ضلوا عن الحق وتعنتوا طالبين أن يكون الرسول ملكا من الملائكة ولو جاءهم ملك مقرب ما استجابوا إلى ذلك سبيلا قال تعالى: "وَلَوْ أَنَّنَا نَـزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ".

هذه أبرز العلامات التي تفضح الشخص الجاهل حينما تراه مهتما بالجدل والمناظرة. وحينما نبحث عن الرعيل الأول خير جيل جيل الصحابة نجدهم يحذرون الناس من الجدال والمناظرة لأن من تمرن على ذلك صار ذلك همه ومبتغاه ويذكر لنا أبو عمر يوسف بن عبد البر النمري في كتابه جامع بيان العلم وفضله عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "لا تعلَّموا العلمَ لثلاث: لتماروا به السُّفهاء وتجادلوا به العلماءَ ولتصرفوا به وجوهَ النَّاس إليكم وابتغوا بقولكم ما عِند الله فإنَّه يدوم ويبقى وينفد ما سواه" (جامع بيان العلم لابن عبد البر: 1 /176). وكذلك في العصور الموالية عصر التابعين وهكذا كان الأمر في عصر الأئمة المذاهب حيث نجد الإمام الأوزاعي رحمه الله يقول: "إذا أراد الله بقومٍ شرًّا ألزمهم الجدلَ ومنعهم العمل" (شرح أصول الاعتقاد: 1/ 145).

قضية الجدال والمناظرة ينبغي أن يعطى لها حكم الضرورة إذ هي مقام الدفاع عن الحق والعلم لنصرة دين الله تعالى وهذا منهج القرآن الكريم في عرض الحوار خصوصا في محاورة الأنبياء لأقوامهم.

وإذا ما أمعنا النظر في كتب الأعلام الأوائل نجدهم ينأون بأنفسهم عن الجدال والمناظرة بل يحذرون الناس من ذلك ويذمون فاعله، يتحفنا الإمام الذهبي عليه الرحمة والرضوان في كتابه الرائع "نزهة الفضلاء بتهذيب سير أعلام النبلاء" بقول نفيس للإمام مالك إمام دار الهجرة رحمه الله إذ قال: "الجدال في الدِّين يُنشئ المراء ويَذهب بنور العلم ويُقسِّي القلب ويورث الضعفَ" (نزهة الفضلاء: 2/ 623). وعن عائشة قالت: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ("إن" أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم).

عموما يمكن القول تقديرا إن قضية الجدال والمناظرة ينبغي أن يعطى لها حكم الضرورة إذ هي مقام الدفاع عن الحق والعلم لنصرة دين الله تعالى وهذا منهج القرآن الكريم في عرض الحوار خصوصا في محاورة الأنبياء لأقوامهم ومحاولة إقناعهم للدخول في دين الله تعالى، مما يجعلنا نتساءل هل هناك هدف معرفي للجدل؟ أم أن الهدف الحقيقي من الجدال له طبيعة وجدانية وله ارتباط وثيق بمعركة الوجود.

من خلال هذه الرؤية يمكننا أن نفهم أن الاشتغال بالجدل والمناظرة فيه تضييع للطاقات وإبراز للخصومات ولا ينشغل بها إلا ذو هوى أخلاقي وجهل معرفي قيمي، أما العلماء فينشغلون بما ينفع الأمة ويثبت أركانها وأسس حضارتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.