شعار قسم مدونات

مِحنَةُ الفَقْد

blogs تأمل

جَلستْ في صَمت، تَترحّم على روحِها القَديمة، تتأمّل مَلامحَها البَاهتة، والسّواد الذي غَزا أسفَل عَينيهَا، تَتحسّس ما تبقّى منهَا بَعد مُرور العَاصفة، تُحصي خَسائرهَا وهي تَسأل نفسَها: "هل انتهى حقاً؟ هل استحقُّ كل هذا؟ وهل سيغير مرضي شيئاً مما حدث؟". نعم، أن يُوشك الإنسَان على فُقدان نفسِه حزنًا على من فقده!

هي واحِدة من مَلايين البَشر الذين تَعرضّوا لمِحنة الفقد، فَـقْدِ إنسَان عَزيز تَجَسّد فيه مَعنى الحياة، أو فقْدِ صِحّة وقد أنهكَهم المَرض، أو فقْدِ حُلم عاشوا لأجلِه وسخّروا حَياتهم لتَحقيقه، وربّما فقْدِ مالٍ تَعبوا في تَحصِيله، إنّها لعنة الفقْد، المِحنة أو الابتلاء… سمّها كيفما شئت طالما أن ألمَها واحِد. لكِن هذه هِي الحَياة، لا تَسير على وَتيرة واحِدة، لقوله تعالى: "وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ"، قبضٌ لإدرَاك عظمَة قدرة الله عزّ وجلّ واللّجوء إليه، وبسطٌ للتّعرف على نِعمِه وشكره سبحانه.

وكان لزامًا أن يمرّ كلّ إنسَانٍ بهذا الامتحان الصّعب، أن يَعبُر بَحر المِحنة دون أن يُدركه الغَرق، أنن يَتعثّر ويَنهض، أن يُحلّق عاليًا ثم يَرتطِم على الأرض بشدّة بعد أن انفجرت سَحابة أحلامِه وأصَابه من شَظاياها ما مزّق فؤاده، أجل كان لزامًا ما يَحدث له كَي لا يغادر الحَياة وهو مُفلسٌ من التّجارب والخِبرات.

لا تأسَف فإنّ الله لا يُضيّع أجرَ المُحسنِين، سَواء كَان جُهدًا أو وَفاء أو نيّة صَادقة. يَجب أن تُدركَ أنّ ما خسرتَه كان مقدرًا له ذلك، لابدَّ أن يستقرّ في نفسكَ أنّ طبيعة الدّنيا "الفناء"، أن تَبتر كلّ سَخطٍ خفيّ في نفسِك على قَدَر الله

وأنت، هل ابتُلِيتَ يومًا؟ هل بكيتَ طويلاً من أناس غدروا بكَ ورحَلوا وتخلّوا عَنك؟ من أمور تأخّرت عن موعِدها؟ من فَرحة أضَاعت طَريقَها إليكَ؟ من آمَالٍ وأمنياتٍ انتظرتَها طويلاً ولم تتحقّق؟ من حادثٍ أو مرضٍ أنهككَ؟ وهل أنتَ يائسٌ الآن وتقول: لماذا؟ كم كنتُ مخلصًا، كم تَعبت لتَحقيقه، كم فَعلتُ وكم كنت… حتماً ستجيبني بـ "نعم"، فمن منّا لم يمرّ بهذا!

لكن لا تأسَف فإنّ الله لا يُضيّع أجرَ المُحسنِين، سَواء كَان جُهدًا أو وَفاء أو نيّة صَادقة. يَجب أن تُدركَ أنّ ما خسرتَه كان مقدرًا له ذلك، لابدَّ أن يستقرّ في نفسكَ أنّ طبيعة الدّنيا "الفناء"، أن تَبتر كلّ سَخطٍ خفيّ في نفسِك على قَدَر الله، فلا يبقَ في النّفس شَيء من سوء ظنّ أو امتعاض! أن تدركَ أن الألم الذي يعشّش في صَدرك سيزولُ حتمًا، وأنّ مقلتيك اللّتينِ جَفّتا وهما تبكيَان ضَياع حُلمٍ أو خَسارة حَبيب، سَتبكيَان من فرطِ السّعادة بعَطايا كَثيرةٍ لا تَزال في الغَيب، سيفرّج عنها الله قريباً. 

فالله يَعلم مِقدار التّعب الذي تكدّس في تنهيدتكَ، الأحَاديث التي تَراكمَت في صَدرك، والهمّ الذي أثقل قلبكَ، هو يَعلم عن اللّيالي التي لم يُغمَض لكَ جَفنٌ فيها، وعن وجع الفقْد الذي شوّه ملامحَك، يَعلم حجمَ الحزن الذي سرقَ بسمَتك، الدّموع التي أحرقَت وجنتَيك، كم تعَثرتَ في الطّريق، وكم مرّةً قصّ الواقع جناحَيْ أحلامكَ هو يَعلم كم أنتَ ضَعيف، الله يَعلم كلّ شيء! ما عليك أنتَ إلا التمسّك بحُسن الظنّ به سبحَانه والتّسليم لقضَائه فحَاشاه عزّ وجلّ أن يَكون متربصًا بإيذائك! فهو الذي إذا أعطَى أدهَش وإذَا مَنع فلِحكمَة لا يَعلمها إلاَّ هو سُبحانه، فأنت لا تدري كم صَرفَ الله عَنك مِن الأذى وأنتَ بسُوء ظنّك تبكي!

ستحمَد الله كثيرًا على هذه المِحنة لكن لا تتخلّى عن أخلاقكَ ومبادئك وأنتَ تجتازها، وإن ضَعفت فألق همومَك في بَحر التوكّل، لينزل الله على قلبكَ برد اليَقين، وتذكّر أن حُطامك هذا سيبنيك يومًا، فقط تعلّم كيف تثق بالله، فعوضه إذا حلّ بك أنساك ما فقدته

إذن، أقِـم مراسِم دفنٍ للأحلام التي لم يأذن لها الله أن تصبح حَقيقة، فلا تأسَف على مَا فات، ولا تسَمح لنفسك بالاستسلام للمِحنة التي أصَابتك فتُنسيك تاريخ النّعمة التي غمرتك طويلاً!، فأنت وحدك من يُقرّر، فإمّا أن تدوس على أوجَاعك وتَنهض، أو تسلّم لهَا نفسَك فتستولي عَليك. يقول أحد علمَاء النّفس: "أنّ الغارق في المِحنة قد حدّد كينونته من خلالها، فأصبح هو المحنة! وليست هي جزءاً من حياته"، فلو مثّلنا حياته بفلم نجده توقّف عند مشهد المِحنة، فاستغرقته. في الحقيقة نحن أكبر من المِحنة، فهي مُجرّد مَشهد سَيزول بالتّأكيد، لكنّ قضيّة الاستغراق فيهَا هي التي تختلف.

الجزء الممتلئ من الكأس: لن تخرج من المِحنة كما دَخلتها، ستغدو أكثر صَلابة في مواجهة تقلّبات الحياة، فنحنُ نكبر مع مرور الوَجع لا السّنين، ستكشف لكَ المِحنة عن حَقيقة من حَولك ربّما، ستعرف أن من كنتَ تظنّهم السّند ليسوا كذلك، إنّما تقاطعت قافلة مصَالحهم مع طَريقك، وها هم يُكْملون الطّريق دونك! وأنّ من اعتقدتهم غربَاء إذ بِهم الأقرب إليكَ، أنتَ فقط لم تكن تنتَبه لذلكَ! وإضافة إلى مَعرفة نفسِك والنّاس من حولكَ، ستتعرّف على الله، فما حَصل من مُصيبة اهتزّت لها أوصَالك، ستَسكن بعدَها، وتَستقرّ المفاهيم الكبرى في حَجم الأشيَاء في نفسِك ولا يبقَ لكَ كبيرٌ وبَاق غير الله عز وجلّ، فتعزف عن الرّكون للدنيا والباقي هو الله، فماذا فقد من وجد الله؟

أخيرًا ستحمَد الله كثيرًا على هذه المِحنة لكن لا تتخلّى عن أخلاقكَ ومبادئك وأنتَ تجتازها، وإن ضَعفت فألق همومَك في بَحر التوكّل، لينزل الله على قلبكَ برد اليَقين، وتذكّر أن حُطامك هذا سيبنيك يومًا، فقط تعلّم كيف تثق بالله، فعوضه إذا حلّ بك أنساك ما فقدته.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.