شعار قسم مدونات

نظرية الاحتجاجات الشعبية على ضوء حراك الريف

Protesters hold their phones as they shout slogans during a demonstration in the northern town of Al-Hoceima against official abuses and corruption, Morocco June 1, 2017. REUTERS/Youssef Boudlal TPX IMAGES OF THE DAY

عجّ التاريخُ الإنساني في مفترق فواصله الزمنية بلحظات تمرد شعبية بدءاً من ثورة سبارتوكس بروما وإلى يومنا هذا، تفاوتت أسبابها ونتائجها حسب السياق المٌفرز لها. إن المنطق الذي حكم ولايزال يحكم هذه النزعة الثورية على اختلاف زمنها ومكانها يتمثل بكل بساطة في إرادة التغيير وخلق مستقبل أفضل، ويكون هذا إما برفع شعارات الإصلاح الراديكالي أو بالتعبير عن واقع محتقن في ظرفية سياسية، اجتماعية، اقتصادية محددة قابلة للسد والتجاوز متى تداركت.

الفكرة التي نسعى لمعالجتها هنا تتمحور حول تفسير نظرية الاحتجاج الشعبي (على ضرورة التمييز ما بين المصطلحات السوسيوسياسية، الإحتجاج، الحراك، الوقفة، الانتفاضة، الثورة، التجمهر..) في محاولة متواضعة للإجابة على السؤال الأهم والذي طالما شغل بال المهتمين بالسوسيولوجيا السياسية ألا وهو المتعلق بالظروف التي قد يثُور الشعب لأجلها. بمعنى آخر، لماذا قد تكون هناك احتجاجات في منطقة ما في دولة معينة في حين أن هناك مناطق أخرى تشهد اضطرابات اجتماعية واقتصادية أعظم شئناُ في نفس الدولة ولا تنتفض على ذلك؟!

النموذج الذي بين أيدينا اليوم في المغرب هو النموذج الريفي أو الحُسيمي على وجه التحديد، إذ تشهد هذه المنطقة احتجاجات منذ أكتوبر 2016 على وقع تداعيات حادثة مقتل مواطن بسيط (بائع سمك) على يد السلطات الأمنية، إنه نفس المشهد المرير الذي شهدنا تكرره عدة مرات في دولنا(منذ بوعزيزي بتونس)، مشهد الظلم والتفرقة الاجتماعية على اختلاف انعكاساتها، والتي لا تفسير لها سوى اتساع الهوة الطبقية والمجالية وترسيخ السلطوية السادية على ظلال القانون.

إشعال وقود الإحتجاج أو إطفائه رهين بعوامل من بينها: صعود القيادات، مدى مشاركة الطبقة الوسطى، العلاقة ما بين الحُكام والمحكومين "خصوصية الولاء والمسألة الدينية" وعلاقة الأفراد فيما بينهم "المسألة الهوياتية والثقافية"، المعادلة الأمنية في الدولة.

وهذه الخلخلة وهذا التسيب ولّد حدثاً لم ينقطع إلى يومنا هذا، بل يزيد اضطرابا يوماً بعد يوم خاصة بعد اعتقال زعيم هذا الحراك(الزفزافي).و تسارع الاحتجاجات في المنطقة لم يولد أي مسارِ تاريخي فارق سياسياً وثقافياً بالمغرب وإنما جعلنا نتيقن بضرورة الالتفات إلى الأوضاع السوسيواقتصادية المتردية التي تعيشها هذه المنطقة باعتبارها منطقة مهمشة على مستوى الأجندة الحكومية، وخير دليل على ذلك الغياب التام للسياساتِ العمومية الممنهجة (مثال مشروع الحسيمة منارة المتوسط الذي يندرج في خانة مشاريع مخطط التنمية المجالية والذي لم ينفذ إلى يومنا هذا منذ 2015).

إنها جولة أخرى في معركة الكرامة، كشفت عن تطور هائل في أداء الحركات الشعبية بالمغرب خصوصاً على المستوى المحلي سواء فيما يخص الحشد والتعبئة (تجدر الإشارة إلى أن مد العاطفة قد تسرب للمدن المغربية الأخرى)، أو على مستوى تسخير منابر الإعلام (الغير رسمية) و مواقع التواصل الاجتماعي (كسب تأييد القضية)، كما قد كشفت لنا من منظور آخر على هُلامية الرؤية الحكومية ولا أخص بالذكر هنا حكومة العثماني ذات التأليفة اللامتجانسة وحسب والتي زعزعت المشهد المعتاد الذي ألفناه في تأييد المعارضة السياسية المطالب الجماهيرية، وإنما ضعف النخب السياسية على رأسها الأحزاب والتي من المفترض أن المادة 7 من دستور 2011 قد انتقلت بها من الوظيفة الكلاسيكية المتمثلة في المشاركة في ممارسة السلطة على أساس التعددية والتناوب، إلى الوظيفة الحداثية والمتمثلة في تأطير المواطنين وتكوينهم السياسي وتعزيز انخراطهم في الحياة الوطنية والمساهمة في التعبير عن إرادتهم.

لمغرب الآن في لحظة حاسمة من الانزلاق من المسار التطوري في دولة الحق والقانون، وتأزم الوضع أكثر فأكثر لا يؤشر إلا على إفلاس الحيل الإغرائية مما تحمله من مصطلحات براقة ووعود كاذبة، ولا حل نراه الآن أمام الحكومة إلا حوار جاد مع ممثلي مختلف الفعاليات عبر سياسة احتوائية تنسج برامج تنموية قريبة ومتوسطة إلى بعيدة المدى تعزز إمكانيات الريف المغربي و تتيح قنوات التواصل لسد الفجوة، بعيداً عن البروبغاندا والتدجين والثقافة المخزنية التي ل اتعكس مقاربة أمنية بقدر ما تعكس هراءً تسلطياً.

أما عن سؤالنا المطروح، فقد لا يسعفنا إلا استحضار أهم ثلاث أطروحات في السوسيولوجيا السياسية، نظرية الفرص السياسية Opportunities political (المدرسة البنيوية ) والتي تعتبر أن المناخ السياسي و المؤسساتي بالدولة هو الذي يخلق الحوافز لتعبئة الفاعلين وبالتالي فالاحتجاجات الشعبية ماهي إلا ردود فعل لوضع محدد لاقى فرصته للتعبير إثر مجموعة ظروف محيطة (الأزمات السياسية، تفكك الإدارات، التحالفات..)، و ترد أطروحة تعبئة المواردresource mobilization theory في نقدها إلى اعتبار أن الاحتجاجات هي سلوكيات غير سوية فأطلقت ما يسمى بنظرية الحرمان النسبي في أربعينات القرن الماضي -والتي تفترض أن سخط الأفراد يتوازى طرديا مع مقدار توقعاتهم مقارنة بالجماعات الأخرى- بمعنى أن النسق الإدراكي المعرفي الشعبي يميل لفقدان الثقة إثر فرضيات اللامساواة و التفاوت السوسيواقتصادي بين الطبقات (سوء توزيع الثروة والتهميش الاقتصادي، غياب برامج ومشاريع تنموية..). أما الأطروحة الثالثة وهي أطروحة التأطير (المدرسة الـتأويلية)، فقد افترضت أن الفرص السياسية ليست هي المحرك لدينامو الإحتجاج،و إنما التعبئة ماهي إلا نتاج تأويلي للأحداث سنده تمويه المعاني لتقوية الواقع أو إضعافه.

التوجه نحو القمع والعسكرة لن يثبت لنا إلا جموح غريزة الهيمنة و محو ثقافة التفاوض من ذهن المسيرين وجهلهم لتكتيكات خلق مناخ تصفية. وهذا التخبط هو ما انعكس من خلال ردات الفعل الحكومية في البداية خصوصاٌ من خلال الإعلام الرسمي المنحاز.

قد تكون سيرورة الحراكات الشعبية واضحة المعالم، إلا أن بروزها في منطقة دون أخرى وازدهارها و إخمادها يحتاج بيئة خصبة، والتي تكون إثر خليطِ متجانس من المعضلات السياسية والسوسيواقتصادية، تتمثل في بروز فعل ورد فعل أو بالأحرى انفجار لحظي متزامن لسلسلة من التراكمات، فالتحولات السياسية، درجة وعي الجماهير، فقدان الثقة من الفئة المُنتخبة والشعور بعدم تمثيل الإرادة الشعبية، هي عوامل مشجعة على بدأ المشوار، ومن جهة أخرى نجد أن إشعال وقود الإحتجاج أو إطفائه رهين بعوامل من بينها: صعود القيادات، مدى مشاركة الطبقة الوسطى، العلاقة ما بين الحُكام والمحكومين "خصوصية الولاء والمسألة الدينية" وعلاقة الأفراد فيما بينهم "المسألة الهوياتية والثقافية"، المعادلة الأمنية في الدولة.. هذه كلها وأكثر تفاعلات تؤثر في مبيان الثقافة الاحتجاجية بالدولة.

إن الاحتجاج الشعبي السلمي ومشاركة الأفراد للتعبير عن آرائهم بحرية دون قيود وتأثيرات هو حق مشروع للمواطن وحق من الحقوق السياسية حسب المواثيق العالمية ( العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية 1966)، وتمييز الدولة المٌستقرة من المستبدة يكمن في مدى محاولتها التأثير وبسط السيطرة،(وذلك حسب نظرية المجال العام التي صاغها يورغن هابرماس في كتابه التحولات الهيكلية في المجال العام في ستينات القرن الماضي).

وكخلاصة، لسنا أمام اختلال موازين القوى داخل النظام، ولا أمام مطالب راديكالية، ولسنا حتى أمام انفلات أمني، بل مطالب شعبية مدنية وسياسية مشروعة، ومسألة التعاطي مع السخط الجماهيري حالياً هو أول امتحان أمام حكومة العثماني في تدبير الواقع، والتوجه نحو القمع والعسكرة لن يثبت لنا إلا جموح غريزة الهيمنة و محو ثقافة التفاوض من ذهن المسيرين وجهلهم لتكتيكات خلق مناخ تصفية. وهذا التخبط هو ما انعكس من خلال ردات الفعل الحكومية في البداية خصوصاٌ من خلال الإعلام الرسمي المنحاز وكذلك من خلال تراشق كل من هب ودب في تشويه الصورة المرسومة عن الحركة بتلفيق الاتهامات (التخوين والعمالة والانفصالية) التي ما فتئت تتردد على ألسنة بعض الفاعلين وهو ما يؤدي بنا للسقوط في منعطف السذاجة السياسية ودق ناقوس الخطر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.