شعار قسم مدونات

شهر الصيام والقيام… بأيّ معنى؟

SURABAYA, INDONESIA - JUNE 17: Indonesian Muslims pray in the first Tarawih as Muslims begin fasting for Ramadan at Al-Akbar Mosque on June 17, 2015 in Surabaya, Indonesia. Muslims worldwide observe Ramadan, the ninth month of the Islamic calendar which is marked by a holy month of fasting, prayer, and recitation of the Quran. (Photo by Robertus Pudyanto/Getty Images)

من رحمة الله بخلقه أن بعث فيهم رسولا من أنفسهم، يتلوا عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم.  دعا رسول الله عليه الصلاة والسلام الناس إلى حياة طيبة تقوم على التوحيد، وتسعى للارتقاء بالإنسان من حضيض الجاهلية إلى قمة الإسلام والحضارة، مرددا "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق". وشهر رمضان يعد مناسبة عظيمة، يتأمل فيها المسلم ذاته، ويرى حاله، ويحدد مكانته ممن خلقه في أحسن تقويم والذي يقول: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ".

لقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذا الشهر الكريم، والزيادة فيه من أعمال البر والخير، ليتدارك المسلم اليوم تفريطه في حق الله، وعسى أن ينتبه من غفلته ويسمع لبشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانا واحتسابا فقد غفر له ما تقدم من ذنبه،" ويعلم أيضا أن "من قام رمضان إيمانا واحتسابا فقد غفر له ما تقدم من ذنبه." ولذلك لا يعقل أبدا تضييع مثل هذه العروض لتبديل السيئات بالحسنات، والتعرض لرحمة رب الأرض والسماوات، ونحن بين يدي هذا الزائر العزيز.

غير أن الناظر في أحوالنا اليوم، لا يسر إلا بقدر ما تعبر عنه الألوان وتظهره الصورة والأشكال، لأن الذي ينفذ إلى الداخل، ينتابه في حقيقة الأمر شعور بالحزن والقلق والحيرة، ولعله بطرح بعض الإشكالات المتداولة نأتي على هذه الحيرة ونفكها. فلماذا شهر الصيام والقيام؟ وأي فائدة ترجى من الجوع والعطش طول النهار؟ وأيها ترجى أيضا من الوقوف خلف الإمام ليال طوال؟ وهل من الممكن أن نسعد بالتعب والسهر؟

يعلمنا الجوع والعطش معنى التقوى والصبر والجهاد في سبيل الله، فترى الصائم في خلوته لا يمد يده إلى الماء والطعام، رغم شدة الحر والإنهاك والتعب.

لا بأس أن نشير في بداية التحليل، أن الله قد فرض على عباده المؤمنين صيام شهر رمضان بقوله تعالى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ"، وسن نبينا عليه الصلاة والسلام قيامه. ومن خلال ما ختمت به هذه الآية الكريمة "لعلكم تتقون"، يمكن للمتمعن فيها الوقوف على المقصود من شهر الصيام، ألا وهو تحقيق التقوى، والتي عرفها الكثير من أهل العلم من بينهم علي بن أبي طالب، بقوله "هي الخوف من الجليل والعمل بالتنزيل والقناعة بالقليل والاستعداد ليوم الرحيل". ولكن كيف يصنع الإمساك عن الأكل والجماع التقوى؟

لا شك أن شهوة الأكل والجماع من أكثر الشهوات التصاقا بالإنسان، نظرا لما توفره له من احتياجات وضمانات أهمها الاستمرار في هذا الكون، غير أن الإنسان قد تستهويه هذه الشهوات فينشغل بها، وينسى ما خلق له أصلا. فالصوم بما هو إمساك مؤقت عن الشهوات، إنما جاء لتحريك الإنسان ودفعه على إعادة التفكير في حقيقتها، فالعكوف على تلبية هذه الشهوات من شأنه أن يطمس الحقائق، لأن الشهوة "إذا زادت كان الفسق والفجور، وإن نقصت كان العجز والفتور، وإن توسطت كان العفة والقناعة"، على حد تعبير الغزالي.

فيقع الإنسان ضحية نفسه التي لا تنفك توهمه بأنه قد بلغ منازل الخلود والحقيقة، بل قد أمسك برقاب كلل الحقائق الوجودية، لأن النفس كما أفادنا الجنيد، "مملوءة بكل هوى وشهوة، مشوبة بالعيوب وكل عثرة، أمارة بكل خطأ وزلة، مركبة بكل فساد وفتنة، مريوطة بكل كسل وفترة".

إذن فعملية الصوم هي تنمية للوعي الذاتي، وتدريب على مواجهة النفس ومجاهدتها، وقوفا على وظيفة الشهوة وحقيقتها. والصيام بهذا المعنى في الإسلام لم يأمر بقلع هذه الشهوات واستئصالها، كما هو الأمر في بعض الديانات، وإنما دعا للسلوك بها مسلك التوازن والاعتدال، فيسيطر الانسان على شهواته بدل أن تسيطر عليه وبذلك يتسنى له تحقيق إنسانيته.

هناك فرق بين من يعبد الله ليزيل عن كاهله ثقل هذه التكاليف، وبين من يطيع رغبة وحبا في المكلّف. لذلك كانت صلاة القيام دأب الأتقياء والمحبين.

هكذا يعلمنا الجوع والعطش معنى التقوى والصبر والجهاد في سبيل الله، فترى الصائم في خلوته لا يمد يده إلى الماء والطعام، رغم شدة الحر والانهاك والتعب، لأنه كلما فكر في ذلك داخله شعور بأن الله يراقبه وينظر إليه، فيستحي من ربه ويخاف أن يخالف أمر مولاه فيكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة. لذلك حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصائم الغافل عن تحقيق معنى التقوى فقال "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه".

ويبقى الجوع والعطش والتعب أمورا عرضية، ليست ذات أهمية كبيرة بالنسبة للصائم المتحقق بمعنى التقوى، فهو لا يمضي نهاره على قراش النوم، أو في التزود ليلا بطعام يضيق به نفسه، وانما هو في حقيقة الامر يأكل أكلا سماويا، ويستمد طاقته وفعاليته في الحياة من مصدر الطاقة في هذا الكون بأسره، أقصد الله الذي يقول في محكم تنزيله، "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا". ولكن ماذا نستفيد من تعب صلاة القيام وعناءها؟

إن هذه المجاهدة المتواصلة تأتي بكل الفوائد، لترتفع بالصائم عن الأرض وترتقي به إلى درجات ومقامات عالية، تنتفي فيها الكلفة عن التكاليف الشرعية، ويتحول بذلك العناء والتعب في الصلاة والذكر والقيام إلى غبطة وحب. ونحن نعلم ما كان عليه الجنيد من اجتهاد في الصلاة، حيث يحكي لنا القشيري أنه "كان يدخل حانوته كل يوم، يسبل الستار ويصلي أربع مائة ركعة، ثم يعود إلى البيت" فضلا عن أخبار رابعة الصوّامة القوّامة.

وإذن فالعبادات والتكاليف الشرعية ليست متعبة في ذاتها، وإنما يعود التعب إلى العبد ويكون حسب حاله، وحضوره مع الله، فهناك فرق بين من يعبد الله ليزيل عن كاهله ثقل هذه التكاليف، وبين من يطيع رغبة وحبا في المكلّف. لذلك كانت صلاة القيام دأب الأتقياء والمحبين، الذين هم في سعي دائم للاتصال بمحبوبهم والتقرب إليه، وقد شهد بهذا الحب حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يخبرفيه عن ربه، أنه تبارك وتعالى قال:"من عادى لي وليّا فقد أذنته بالحرب، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحبّ إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبّه".

إن هذه المجاهدة المتواصلة تأتي بكل الفوائد، لترتفع بالصائم عن الأرض وترتقي به إلى درجات ومقامات عالية، بها يتحول العناء والتعب في الصلاة والذكر والقيام إلى غبطة وحب.

هكذا يكون معنى الصلاة أّن يتصل العبد بربه، وأن يتعرف إلى خالقه في هذا الكون، فيهون في سبيل ذلك ما يلقاه من تعب في صلاة القيام، ولا يتسنى ذلك إلا بشرط الإخلاص لأنه جوهر العبادة وحقيقتها كما في قوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء". لذلك من الغريب اليوم، أن يفضَل المصلي في قيامه افتراش الطريق المجاور على الدخول للمسجد، لأنه على خصومة مع أحدهم فيتورَع أن يشتبك معه في بيت الله، ولكن الأغرب أن يحجز المصلي لنفسه مكانا في المسجد، يبقى رهن إشارته حتى وإن تخلف ليلتها عن الصلاة، ولا أدري هل سيورَث هذا المكان أم لا؟

نعم لا أبالغ عندما أحكي هذه المشاهد، والتي صارت تأخذ حكم العادة في مساجدنا، ولكني أريد أن أؤكد على أنه لا فائدة ترجى من صيام وقيام أحدنا، إن لم تحمله هذه العبادات على معرفة المعبود. ولذلك لا نستغرب، إن فقدنا معنى السكينة والسعادة في القيام بالعبادة، لأننا في حقيقة الأمر، لم نعبد الله كأننا نراه، وليت شعري إذا فقدنا الله في هذا الشهر العظيم فمتى نراه؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.