شعار قسم مدونات

تهافُت المصطلح في أبجدية الفكر والمفهوم المُراوغ

blogs - إلحاد
"الحقيقةُ يجب أنْ تكتشف لا أنْ تُلقّن". هي مقالةٌ فارهة. مُقْنعةٌ جداً في ظاهرها. وهي مُتَبناةٌ بيقينٍ كبير من جانب كل الماديين والتجريبيين وتم التسويق لها بجهد مكثف كقاعدة أساسية في العلوم التجريبية. ولكن، أليس الكونُ بكلّ هذا الإمتداد والتعقيد. موضوعياً. هو أكبر وأشمل من أنْ يحيط به العلمُ وأدواته وشروطه التجريبية بشكل كامل ومطلق.


ألم يتواضع ذاتُ العلماء التجريبيون علي قاعدة أن الحقيقة العلمية تظل نسبية وغير نهائية وقد تتغير. وربما تنتفي بتطور شروط وأدوات العلم التجريبي عبر سيرورة الحياة. ثم سيُطِلّ السؤال الجوهري والابتدائي، ما الحقيقة؟ كيف لنا أنْ نُعرّفها. قبل أن نشرعَ في أنْ نَعْرفَها.

ثم ما أدواتُ كشفها. وكيف نُصنِّف هذه الأدوات. وكيف نرتبها. وهل هي متاحة ومتوفرة للإنسان.  بكاملها. أم ببعضها. ما مقدار حدود المتاح منها لمناهج العلوم. بكافتها. وحدود غير المتاح، أين هو الناجع منها. مكتمل التصويب والإحتياز. لنتيقن به من الإمساك بالحقيقة الكاملة. غير المنقوصة.

علي العلم أن يدرك مدي قصوره عن الإحاطة بكل شيء. وعليه أن يَحْصُر مباحثه في ما ضمن إحداثيات أدواته وشروطه ومنهجياته القاصرة.

كيف لها ذلك. كيف لهذه الأدوات أن تخلع عنها عباءة نسبيتها القسرية. كيف ستأتي مبرأةً من النقص لتمشي بيننا في اكتمال نجاعتها. فتمنحنا برد اليقين وعينه. كيف إلي اكتمال الناقص في ذاته. ثم هل هو العقلُ وحده. هو المنوطُ به. والمُتَعيّن عليه. ممارسة وظيفة الكشف. أم هو النقلُ. هل هو كلاهما. أم سواهما. أم كلاهما وسواهما معاً.

ثم بالعودة الي ذي بدء، ماذا إذا قلنا، إنّ الحقيقة منها ما يجب أنْ يُكتشف. ومنها ما يجب أنْ يُلقّن. فكيف هو المعيارُ في الفصل بين ما لا يتَعيّن إلا بالكشف، وما لا يتحتم حياله سوي التلقين. لا أشُكُّ. وحتماً يقاسمني الكثيرون هذا اليقين. أنّ في هذا الكون الواسع والمعقّد مزيداً من التحقيقات التي تتعالي على ما توصل اليه العلم من شروط وأدوات تجريبية. على الأقل حتي الآن. لا يسعنا سوي التسليم جدلا بذلك.

ثم سيقودنا الحديث حتما في هذا السياق للتطرق لفكرة الإله. وهي الحقيقة السرمدية الأولي في هذا الكون. ففي هذا الصدد. يفوتُ على كل الملحدين والمشككين في حقيقة وجود إله لهذا الكون. يفوتُ عليهم أن حقيقة الإله تتعالي علي مقولتهم العقائدية بأن الحقيقة يجب أن تكتشف لا أن تلقن. والسبب هو موضوعي بسيط. وهو أنّ جوهر الألوهية يقتضي بالضرورة تعاليها عن الإحاطة والاحتياز بواسطة أدوات الكشف الإنساني.

فلايستقيمُ موضوعياً أنْ يحيط المخلوق بالخالق. ولا يتأتى منطقياً أنْ يحوز ما هو نسبي. على المطلق. والإلهُ بالضرورة مطلق. مطلق في مشيئته. وفي قدرته. وفي إحاطته وعلمه. إذن فالإلحادُ في حقيقته وجوهره. هو محض كفران ورفض ذاتي. غير موضوعي. وليس بعلمي أو منهجي. لوجود الإله. الإلحادُ هو رفض لوجود الإله. وليس بنفي لوجود الإله. كما قد يتصور الملحدون. رفقة سواهم. من الكثيرين.

ألم يتواضع ذاتُ العلماء التجريبيون علي قاعدة أن الحقيقة العلمية تظل نسبية وغير نهائية وقد تتغير. وربما تنتفي بتطور شروط وأدوات العلم التجريبي عبر سيرورة الحياة.

وشتان ما بين الأمرين. ما بين الرفض والنفي يمتد ألف عام وعام من التباعد واللا إلتقاء. فعمليةُ نفي الموجود تحتاج الي مقدمات وشروط وطرق قياس منهجية. يتعيّنُ أنْ تتوفر فيها القدرة على الإحاطة بالمرفوض (الإله المطلق). وهو ما لا يمكن أن يتوفر في منهجيات العلم التجريبي النسبية. أما الرفضُ. فسهلٌ وميَّسرٌ. ولا يتطلّبُ جهداً أو مشقّة.

علي العلم أن يدرك مدي قصوره عن الإحاطة بكل شيء. وعليه أن يَحْصُر مباحثه في ما ضمن إحداثيات أدواته وشروطه ومنهجياته القاصرة. وعلي الملحدين الكف عن محاولات الارتكاز علي العلم في تبريرهم لرفض وجود الإله. فليس بالعلم وحده يحيا الإنسان. ليمارسَ فعلَ الحياة. ويُعمّر الأرض.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.