شعار قسم مدونات

أحبك أيها العجوز

blogs - عجوز وشيب

بداية، أود التقدم بالشكر الذي لا تصفه الحروف لشخص لن يقرأ هذا الكلام، لا لشيء إلا لتعذر وصوله إلى هنا، ومع ذلك لن يكون هذا بمثابة مانع من كتابة هذا الحب. سأحاول جاهدا التمرد عن كل قيود العيب التي كبلت مشاعري طوال هذه الفترة، قيود جعلت من كلمة أحبك عارا يفضي بك لنُصحٍ فاضحٍ ولومٍ جارح.

ذلك أن التعبير عن المشاعر الصادقة في تربيتنا العربية جريمة أخلاقية لا تغتفر، والبوح بشيء من هذا القبيل يعتبر إعلان حرب باردة. لأجل ذلك كانت الكتابة متنفسا لما لا تنفع معه العبارة المباشرة، والرسم أداة للصراخ في وجه كل جامد، والخيال مجالا واسعا لكل ما لا تستطيع فعله الآن، وفي كل مرة تفشل فيها جميع محاولات التعبير عن الحب؛ تتشكل عقدة مركبة في أقاصي الروح.

أحبك؛ لأني لست في حاجة لمزيد من العقد الداخلية، أنت الذي علمتني أن العقد لا تنفع إلا مع الأحذية، وأخبرتني أن السياسة يحتاجها القلب أكثر مما تحتاجها الأحزاب، وتقبلتني عندما كان السؤال عنك يذهب لغيرك، وقربتني بنعم عندما صاح الكل لا، وصفعتني بلطف حين ظننت أن الحياة تتوقف على شخص!

مع مرور الحب معك، تأكد لي أن بعض المشاعر لا تتسع الحروف لوصفها، وأن بعض المواقف كفيلة بفعل ذلك كما لو أن تواجدك لغة خالية من الصوت، إيقاعها الوحيد نبض قلبك. يصعب على شاب عشريني مثلي أن يصف علاقته برجل لعب أدوارا تفوق البطولية في عز مَشاهدها.

خمس وعشرون عاما بجانبك، ولا زلت في كل مرة أتأكد أن القرب منك طاعة، والبعد عنك معصية، والنظر إليك عبادة، وفي كل مرة أفقد توازني بهذا الكوكب تأتي جاذبية كفك اليمنى، لأجل ذلك لن أخجل من قول أحبك بعد اليوم، لأنها اللفظة الوحيدة التي تعوض لدي مفردة "أبي".

ولعل من المنطقي جدا أن أعبر عن هوسي الشديد بتفاصيلك الدقيقة التي تجعل يومي كضحكة طفل صغير، تفاصيل عانقت اللاشعور وتدفق معها جمال الحضور، ترنيمة صوتك فوق سجادة الصلاة، عيناك الملتصقتان بمصحفك العتيق، ضحكتك العميقة التي تبعثر حروفك، حبك الشديد لبخور العود، نقدك الجارح للحياة، ووجُودُك الذي يجمع بعد الشتات..

لن أنسى ما حييت كيف ناولتك هاتفي لتقرأ أول مقال لي، فأخذت تصعد وتنزل بسبابتك ثم أردفت ناصحا: "تحدث فيما لا يتحدث الناس عنه، وإياك والسياسة"، حينها أدركت أن الكتابة عنك نوع من الحديث الذي لن يجيده أحد غيري، أما السياسة فلم أمارسها يوما ما عدا قولي "أحبك".

خمس وعشرون عاما وبوصلة قلبي تشير نحو عينيك، أستمد منها الدفء، وأتوضأ بمائها لأقيم شعائر الحب في محراب تواجدك، أقرأ ورد ذكرياتي معك في خشوع تام، من أول يوم لي في الروض إلى آخر اتصال بيننا ختم بدعوة وتسليمتين. بكل ما أوتيت من حب لازلت قناعتي راسخة أن نبرة صوتك أجمل من مقطوعات أم كلثوم، وصورة وجهك أنفس من لوحات بيكاسو، وشايك المنعنع ألذ من خرافة الكابوتشينو، وقصصك الليلية المصطنعة أروع من تراث دوستويفسكي، وضحكتك الهادئة مسرحية هزلية في حضرة الحياة.

مع مرور الحب معك، تأكد لي أن بعض المشاعر لا تتسع الحروف لوصفها، وأن بعض المواقف كفيلة بفعل ذلك كما لو أن تواجدك لغة خالية من الصوت، إيقاعها الوحيد نبض قلبك. يصعب على شاب عشريني مثلي أن يصف علاقته برجل لعب أدوارا تفوق البطولية في عز مَشاهدها، كان الأم في الوقت الذي كانت الوالدة تنام بهدوء في مثواها الأخير، كان الصديق الذي عوض ساحة المدرسة الجارحة، والسائق الذي أثبت أنه أفضل من عشرة مرافقين، والشاب الذي لن أصدق يوما بأنه شَابَ فجأة، والجميل الذي سيظل كذلك.
أبي، أيها الجميل..

لازلت أذكر جلستي المستقيمة بجانبك في السيارة كأن درسا في السعادة سيبدأ، لم يكن كلامي كثيرا.. الأمان كان يمارس ذلك. في نفس المشهد لازلت أذكر أول مرة ركبت قطارا بالخطأ، شعرت حينها بالخوف الذي كنت سأشعر به لو أنك تركتني في السيارة وغادرت بالخطأ!

إلى العجوز الذي لعب الزمان بتقاسيم وجهه..
أحبك بحجم الخطوط التي تسبح في جبينك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.