شعار قسم مدونات

فقدت ابني الثاني في حداد الأول

blogs - رجل يمشي في سكة حديد

لاجئ" تلك الحروف التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ عن اسمي، تلك الصفة اللعينة التي أصبحت هويتي. منذ بداية رحلتي مع اللجوء وأنا أُعامل تحت ذلك المسمّى المبتدَع " المنتَمون إلى اللاوطن".. يفرضونَ عليّ عقاب الانتماء  إلى فلسطين …نعم,, إنّني وفي حياتي هذه أُعاقب على ما أفتخِر بِه وسُلِب منّي.

منذ أولى أيامي "كلاجئ" وهم يفرضون علي وجوب الشعور بالذنب. بالضعف. بالنقص، لكوني جزء من ذاك البلد المغتصب، المتآكل من الحروب، انتمائي إلى تلك البقعة المقدسة أصبح جريمتي الكبرى، وذنبي الأعظم، ولكن العكس مُثبَت دائماً، فإنَني وفي خضم الأزمات لا زلت على شعور الفخر قائمة.. ولا أملك إلَا أن أصدح بها ملئ حنجرتي، إنّني من أبناء أمٍ زاد عمر الحرب فيها عن الثمانين عاماً وما زالت -رغم كل الجروح- منبع الأبطال وأرض المقاومة.

أتعرف ما الهوان يا صديقي؟ بمنظوري هو أن تضطر إلى أن تتعايش مع فكرة كونك لاجئ، أن تتقبل الأرض التي أنت عليها الآن بدل الأرض الممزوجة بعرقك وعرق أجدادك ودماء إخوانك، أن تجوب الأرض بحثاً عن "هوية" في حين أنك كنت تملك أعظم هوية في التاريخ. الهوان يا صديقي أنه بعد كل هذا التنازل والخضوع تجد هويتك في دولة ما " بلا وطن" ليزيد مصابك ألف مصاب ولينفتح الجرح الكامن في أعماق روحك. هويتي الضائعة كانت ومازالت جرحي الذي لن يندمل، فخري الذي لم يراوده شكٌ أبداً.

ثم أتعرف يا صديقي ألم التهجير مرتين كيف يكون؟ إنه أشبه بفاجعة أمٍ فقدت ابنها الثاني أثناء حدادها على ابنها الأول، إنه شعور غريب ومؤلم ونادر لم يكن إلا من نصيب فلسطينيو سوريا. أن تكون لاجئاً يعني أن هناك مغتصباً يحاول انتزاع أرضك منك، أما أن تكون لاجئاً فلسطينياً سورياً يعني أن عدوك عدويين، وألمك أضعافاً مضاعفة، وجرحك أعمق بمراحل وغضبك يكاد أن يحول ناراً وشرارا.

ينال الفلسطيني كما هو حال السوري حصةً وفيرة من مأساة الحرب وبشاعة الظروف، ليحيا لقب "لاجئ" من جديد.

ابتدأت القصة مع ترحيل أجدادي من أرضهم ومسقط رأسهم لتستقر خطاهم في البلد الحنون "سوريا" ليجدوا شيئاً مما اضطروا على تركه في وطنهم من أمن واستقرار، بين شعب لم يلقوا منهم إلا حسن الخلق والمعاملة، فنحن " فلسطينيو سوريا" لم تنصب لنا خيمة واحدة في الأراضي السورية، ولم نهمش على الحدود بصفتنا لاجئين، لا بل كان لنا بقعة أرض في قلب العاصمة دمشق، سميت فيما بعد "مخيم اليرموك" لتكون شاهداً على شعب لم يبخل يوماً على من اعتبروهم إخوتهم في الدم بمسكنٍ أو بفرصة عمل، ليصبح الشعبان فيما بعد قلباً نابضاً واحداًً يحملان القومية نفسها، ثم ليتشاركا أهوال الحرب السورية معاً، لينال الفلسطيني كما هو حال السوري حصةً وفيرة من مأساة الحرب وبشاعة الظروف، وفي النهاية يضطر ذاك الفلسطيني الذي لم يمض على مصابه الأول شيء، أن يجدد تذكرة الهجرة، ليحيا لقب "لاجئ" من جديد، وليبقى حلم العودة ضائعاً من جديد.

 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.