شعار قسم مدونات

أساتذة ومربون جمعوا بين الخلق والعلم

مدونات - التعليم
في مناقشة علمية لصديق مدحه المناقش وهو عالمٌ مشهور بقوله: تأتينا رسائل فيها علمٌ مكتوب في السطور ومحفوظ في الصدور، ولكن صاحب هذه الرسالة جمع أمرين الخلق والعلم وهما العملة التي نبحث عنها في أيامنا العملة الثمينة فعلم خالٍ مِنَ الخلق لا حاجة لنا به بل العلم القليل المتوّج بالخلق أنفع من علم واسع ولكنه خال من الخلق. لا ينسى الطالب طفلا كان أم فتى أم شابًا بل حتى الشيخوخة أساتذةً رسموا في مخيلته كيفية العلم والتعلم وأن العلم خلق قبل أن يكون معلومة.

وفي هذا السياق سأعرض لأساتذة عاصرتهم وعايشتهم وسألتقط بعدسة الذاكرة مواقف أطبعها على ورق الفضاء المفتوح وسأبدأ بأستاذ كبير في عمره وخلقه عرفته في مرحلة اقترابه من السبعين كان صوتُ حذائه نسمعه من بعد؛ لأنه لا يستطيع رفع رجله في المشي لكبر سنه يدخل الصف وينزع قبعته الصوفية ويضعها على المنضدة الخشبية الصفراء ثم يقول من لم يكتب موضوع التعبير فأجيبه أنا.. لِمَ؟ لأنني طالبٌ جديد، قال لا بل أنت طالب بليد ثم يزفني بكلمات تمنيت ألا أكون ممتعًا بالسمع وقتها من شدتها، أنت يا طالب تريد أن تضيع مال أبيك بحجة سفرك من قريتك وتأخذ من جيب أبيك مستغلًا رغبته في تعليمك، وما كاد الدرس ينتهي إلا والأستاذ بجواري هامسًا بكلام أبوي هل تسبني؟ أكيد تسبني وتقول من هذا المتوحش..

فتح بيته للطلبة من بعد صلاة الفجر يقرأ لغير الفاهم ويناقش غير الموافق ويقول لك تعلمتُ منك اليوم معلومة جديدة ولا تستغرب إن أمسك قلمًا وسجل ما قلتَ.

يا ولدي أريدك وأنت الطالب الجديد أن تكون الأول في هذا الصف وسأعقد معك اتفاقًا يقوم على أنني سأشد أذنك إن لم تتفوق، وسأشد أذني إن تفوقتَ وأتمنى أن تكون الثانية في الدرس التالي، كتبت الموضوع وصار يعلُّمنا جميعا وموجها الكلام: اسمَعْ الإلقاء فنٌّ ألقِ موضوع التعبير أمام مرآةٍ في بيتك انظر إلى وجهك في المرآة ومارس دور الجمهور المستمع إلى هذا الكائن الظاهر أمامك في المرآة انظر إلى حركة يديك وتحرُّكِ وجهك لتعلم أن الحركات تبلِّغُ المعنى كالكلام تفاعل مع موضوع التعبير في الصف وكأنك في مسرح كبير فالتعبير حوار أرواح لا صف كلام.

علَّمنا أن الطالب ابن، فإذا وجد طالبا وكان أبوه طالبا عنده فيقول له أنا جدك وأنت حفيدي.. كان ينبهنا قائلًا لا ترفض مهمة توكل إليك بحجة أنك لست أهلا لها، واعلم لو لم تكن أهلا لها لما رشحك إليها من يطلب منك النهوض بها.. علمنا أنَّ القراءة النافعة هي القراءة الناقدة ولن تكون ذا شأن إلا إذا قرأت بعين الناقد البصير، وأوّل نقدٍ شجعنا إليه نقده هو نفسه فيما يكتب ويحرر ويعلِّم. الصف عنده سواسية بين الطلبة لا فرق بين ابن مدينة أو ابن قرية ولا بين مسلم وغيره العلاقة هي العلم وهي أقدس علاقة في التعليم.

علمنا أن الأب لا يُخالَف ومخالفته حتى لو كان عاصيًا فخطٌّ أحمر أن تتجاوز الأدبَ معه. علمنا أن العلم لا يحكم عليه بسنة، وشبه المقدم على ميدان علمي بذلك الخبير بأكل اللحم فإنه عندما يأكل أول لقمة لا يحكم وفي الثانية يقول هذا لحم غنم أو بقر وفي الثالثة يقول هذا اللحم مأخوذ من الرقبة أو الفخذ، وهكذا العلم لا تحكم عليه سوءا أو جودة بمجرد قراءة كتاب أو كتابين.

أعطانا قاعدة فهم أي نصٍّ مكتوب وهي رد الضمائر إلى أصحابها، وبهذا يُفك نصف الالتباس في النص. علمنا أن انشغال البنت في الفيزياء والكيمياء أنفع لها ولأهلها من انشغالها في البيت بالقيل والقال واشترت وباعت. علمنا أن يا مرحبا لفظها في القول متحد.. لكنها باختلاف الناس تختلف.

حرص على أن يربينا على الالتزام والانضباط والسعي في التحصيل وعدم النظر إلى النتائج، زرع في عقولنا حكمة الحياة التي تقول: على المرء أن يسعى إلى الخير جهده وليس عليه أن تتم المطالب. درَّبنا على مهارة اجتماعية تذيب كل الإحن من القلوب هذه المهارة هي المصارحة بين المتخاصمين فهي غسل للقلوب وتجديد صلة.

فتح بيته للطلبة من بعد صلاة الفجر يقرأ لغير الفاهم ويناقش غير الموافق ويقول لك تعلمتُ منك اليوم معلومة جديدة ولا تستغرب إن أمسك قلمًا وسجل ما قلتَ.. علَّمنا أنَّ الإسلام أوسع من فكرة شيخ أو تعصب قول فربّانا على الانفتاح. وأدَّبنا على أنَّ الذوق أعلى خلق وإذا سلم ذوق الإنسان انضبط سلوكه وحسنت مجالسته ومصاحبته وفُتِحت له القلوب ولترسيخ مفهوم الذوق فينا كان يتلطف مع من يقدم له أبسط صنيعٍ حسنٍ بقوله: سلم الذوق لأهله.

علّمنا أنَّ أول خطوة في الكتابة هي القراءة ثم كتابة أحداث اليوم وأنه كلما زدت في القراءة نما أسلوبك حتى ينطلق قلمك فهي شبيهة بالطفل الذي يحبو ثم فجأة ينطلق في المشي. لا تتعجب إن رأيته يمشي في يومٍ ماطر بارد في شوارع حمص قاصدًا ذلك المعلَم الرائع مسجد خالد بن الوليد ليعطي درسه الذي لم يتركه، إلا عند اشتداد مرضه في أخريات حياته.. ولا تتعجب إن كان هذا الدرس لاثنين أو ثلاثة ولا تثيرك الدهشة إذا رأيته منضبطًا في درسه وكأنه في جامعة يلقي محاضرة.

رحمك الله أستاذي عبد الوكيل صافي رحمة واسعة وجمعنا بك في جنتك وأعاننا على السير على خطاك التربوية لأن ما ينقصنا اليوم الخلق والوق وبهما تعلو الأمم وترتقي في سلم المجد الإنساني.

لو تحدَّث عن علة حكم فقهي فيقول أنا بعقلي الصغير أظن أنَّ علة كذا لكذا ولكنني أشهد وأقر أنَّ عقلي الصغير لا يمكنه إدراك جميع العلل التي أرادها ربي وراء هذا الحكم. تعلمنا منه أن التواضع طبع لا تكلف وأن الأدب خلق وليس كلامًا معسولا، فقد يحدثك أحدهم أنه رآه مرة ووضع يده على كتفه والشخص لا يعلم أنه الأستاذ والمربي والعالم ويمشي معه دون تردد يحادثه ويسايره وكأنه صاحبه ثم لا يستطيع ذلك الشخص لخجله كتمانا بعد أن يعرف أن هذا الذي وضع يده على كتفه وهو راكب دراجته الهوائية ومشيا معا هو نفسه العالم والأستاذ والمربي.

ربَّانا على أن الرضا عن الله أسمى الأماني وأعلاها وأن التعاطف مع الناس دون النظر إلى بيئاتهم ودياناتهم هو الذوق والخلق. زرع فينا الهمة عندما يحدثنا عن تجربته في الشهادات وتحصيله لليسانس آداب وليسانس شريعة وليسانس حقوق ودبلوم تأهيل تربوي مبيِّنًا أن الله أعطى الإنسان طاقة أكبر من أمنياته بكثير. غرس فينا كلمةً لا ننساها: اتعب في شبابك تسترح في مشيبك.

نعم هكذا يكون المربي وهكذا كان الأستاذ والمربي "عبد الوكيل صافي" رحمه الله تعالى ابن حمص التي لم تعطه حقه ولو كان في غيرها لسجلت كلماته وإرشاداته التي نحن بأمس الحاجة إليها اليوم في زمن كثُر فيه الصغار المتصدرون الذين ظنوا بلاغتهم تهدي أحدًا أو تزيل حزن قلب أو تربي خلقًا، ونسوا أن الخلق والذوق لا يُدوَّن إلا بصنائع الأفعال لا بجمال الأقوال .

رحمك الله أستاذي عبد الوكيل صافي رحمة واسعة وجمعنا بك في جنتك وأعاننا على السير على خطاك التربوية لأن ما ينقصنا اليوم الخلق والوق وبهما تعلو الأمم وترتقي في سلم المجد الإنساني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.