شعار قسم مدونات

يوم في غرناطة: عندما بكت السماء ورُقص الفلامينجو

blogs - غرناطة
في ساحة بلازا نويفا التي لا يفصلها سوى عشرات الأمتار فقط عن حي البيازين من جهة وقصر الحمراء من الجهة الأخرى، كان الدليل السياحي يقف حاملا مظلة برتقالية اللون، هي الإشارة التي تدل على أنه يقدم جولة سياحية مجانية لمن يبحثون عن هذا النوع من الجولات مثلي، اقتربت بهدوء وجلست على حافة النافورة وأسراب الحمام تطير من حولي، ورحت أنظر إلى الناس الذين أخذوا بالتعريف عن أنفسهم وعن بلدانهم بعد أن طلب منا الدليل ذلك؛ قبل بدء جولتنا، وعندما وصل الدور عندي علت الدهشة وجه الجميع، وقد قال لي الدليل بأن هذه المرة الأولى التي يرافقه فيها أحد من منطقتنا الشرق أوسطية، وسرحت قليلا وأنا أحاول أن أحدد أهي الحروب التي تعصف بمنطقتنا هي ما يمنعنا من زيارة وقراءة تاريخنا، أم لأننا لم نزر ولم نقرأ تاريخنا نحن غارقون في حروبنا! لكنني عدت فتذكرت من جديد الدرس الخالد "إن من لا يقرأ التاريخ محكوم عليه إعادته".
بدأت الجولة عندما مررنا بجانب نهر حدرة العريق، ورحنا نتسلق أزقة البيازين الضيقة وقد أبهرتني البيوت البيضاء المتراصة والتي ما زالت تعتمر قرميدها الذي يكللها ويزيد من بهائها، وراح الدليل يسرد تاريخ هذا الحي وكم كان كبيرا ومزدهرا في عهد "بني الأحمر"، وعندما توقفنا أمام بئر مغلقة يبلغ عمقها 50 مترا راح الدليل يشرح عن أهمية الماء في حياة المسلمين وكم كان عنصرا أساسيا مرتبطا بالإيمان والطهارة لديهم، وأشار إلى وجود العديد من الآبار الأخرى كان المسلمون قد حفروها ليتسنى لهم توفير احتياجاتهم، ثم توقفنا أمام مسجد البيازين الكبير وهو ما أصبح كنيسة منذ خمسة قرون ورحنا نستمع لقصة السقوط المريع وما تلاها من أحداث، وكيف أن التنصير الاختياري لم يجد نفعا مع المسلمين المتمسكين بدينهم، فما لبث أن تحول التنصير للإجبار وعُمَد الجميع رغما عنهم واستبدلت أسماءؤهم العربية بأخرى قشتالية.

ما زالت هذه الكهوف البديعة تقدم درسا لكل من يصلها، كيف أنه في غمرة الغفلة والانشغال بالاختلاف والاستقواء بالآخرين على أبناء جلدتك تخسر كل شيء.

هكذا جردوا من هويتهم وخسروا أسماءهم! وبصمت راقبوا تحويل مساجدهم إلى كنائس وراحوا يمارسون شعائرهم بسرية تامة فكان الخازوق والمحرقة لهم بالمرصاد، وقد عانت المرأة الموريسكية الأمرين لأنها كانت مسؤولة عن تربية الأطفال الذين كانت كثيرا ما تخونهم براءتهم فيفشون أسرارها ليتولى رجال محاكم التفتيش اغتصابها لتطهيرها من ذنوبها قبل حرقها، يومها ونحن واقفون بجانب المسجد مستمعين للفظائع التي ارتكبت بحق الموريسكيين بكت السماء.

أقسم لكم أن السماء بكت وبللنا مطرها المنهمر فاحتجنا معه للاختباء تحت إحدى الأشجار، وعندما وصلنا لنافورة ما زالت تنضح بالمياه العذبة، وقف الدليل ليملأ عبوته، ومازحنا قائلا بأن مياهها سحرية تمنح الخلود، فانحنيت وملأت يدي بمياهها ورحت أعب دون توقف ليس طمعا في القوى السحرية، ولكن ربما لأنني أردت أن أتصل من خلال خيط الماء فيها بالحضارة التي كانت هذه النافورة شاهدة عليها في يوم من الأيام أو لأنني أردت أن أسلم على الناس الذين توافدوا عليها على مدار قرون، فكما يقولون نحن نترك جزءا منا في كل مكان نزوره.

وبعد أن تسلقنا القمة الأعلى من حي البيازين، حبست أنفاسي أمام المشهد الذي اكتمل ونطق بكل شيء، فعلى اليسار كان قصر الحمراء تميل عليه أشعة الغروب الحمراء وتزيد من عظمته وبهائه ونقشه الذي لا يغيب "ولا غالب إلا الله" ومن الأمام بياض البيازين ودروبه الضيقة الجميلة المرصوفة، ومن الخلف كهوف ساكرومونتي المتواضعة، هكذا اختصر هذا المشهد قرابة ثمانية قرون هي تاريخ الحضارة الإسلامية في الأندلس.

لقد كان منظر الكهوف التي حفرت في الجبل أمامنا درسا في التاريخ، إنها الكهوف التي بناها الموريسكيون (المسلمون الذين بقوا بعد سقوط الأندلس) بعد أن هربوا من محارق محاكم التفتيش وجحيمها، هنا مارس المسلمون دينهم بسرية تامة وتركوا نعيم البيازين خلفهم، وعندما وصلنا للكهوف التي يسكنها الغجر الآن نظرت نحو البيازين وأغمضت عيني محاولا أن أشعر بشعور الموريسكيين الذين فروا إلى هنا وهم يرون بيوتهم في الجهة المقابلة، ما زالت هذه الكهوف البديعة تقدم درسا لكل من يصلها، كيف أنه في غمرة الغفلة والانشغال بالاختلاف والاستقواء بالآخرين على أبناء جلدتك تخسر كل شيء، ويضيع كل ما كنت تظن أنه ليس بزائل، وهنا استمعنا من جديد إلى قصة كتب ساكرومنتي الرصاصية التي عوملت كإنجيل خامس والتي كانت محاولة ذكية لبعض الموريسكيين للتقريب بين الإسلام والمسيحية للتخفيف عن الموريسكيين، ولكن هيهات.

أحسست أنني عدت عبر الزمن وأنني أجلس في إحدى تلك الليالي قبل خمسة قرون، وفي الليل وبعدما انتهى كل شيء عادت السماء لتمطر من جديد.

وقد هبط الليل مع نزولنا الجبل وبدأت أنغام الفلامينكو تتسلل من شرفات الغجر بجيتاراتهم وأصوات "أوليييه" تصدح في المكان، وهنا وقعت على قصة غريبة أخرى، فهذه الكهوف التي هرب إليها الموريسكيون سمعت إلى جانب صلواتهم؛ آهاتهم التي تمثلت في ميلاد فن جديد.

تقول القصة إنه وفي الليل كان الموريسكيون الذين أضنتهم الحياة يجتمعون مع الغجر الذين تصادف قدومهم في بداية القرن السادس عشر إلى ذلك المكان، كانوا يجتمعون ويرقصون ليتحرروا من أعبائهم وهمومهم، وقد تطور الفن الذي نراه اليوم اليوم عبر قرون من تلك الرقصات البسيطة للغجر والموريسكيين، وأن كلمة "أوليييه" التي يفتتح بها الرقص ليست سوى التنهيدة الموريسكية "الله" والتي كان يطلقها الراقص استنجادا بالله ليخلصه من همومه.

في الليل وبعد أن عدت لسكني قررت حضور رقصة فلامينجو يقيمها بعض الغجر، وهناك رأيت المأساة التي حدثت قبل خمسة قرون بدروسها وعبرها متمثلة في حركات رشيقة وبفن ينطق معه الخشب تحت قدمي الراقص، رأيت القصة تتحول إلى فن يختصر الزمن ويقدم الماضي حاضرا ينبض بالحركة والجمال فيلتهمه الحاضرون وينتشون، وأحسست أنني عدت عبر الزمن وأنني أجلس في إحدى تلك الليالي قبل خمسة قرون، وفي الليل وبعدما انتهى كل شيء عادت السماء لتمطر من جديد، لكنني هذه المرة لم أسارع للاختباء وتركت السماء تغسلني بدموعها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.