شعار قسم مدونات

الفِرَقُ المُهلكة.. في تجليات قانون عجيب!

blogs - شيوخ الدين

قانونٌ عجيب وتصريف غريب ظاهرٌ في التاريخ وفي طبائع الأمور، وهو أنه ما تقدم شيء إلى غاية إلا وكان تقدمه هذا عاملا في تأخيره أو الحد منه أو نفيه جملة، لا أدري إن كان لهذا القانون اسم أو أفردت له نظرية معروفة يمكن أن يشار إليها، لكنه موصوف وماثل، فنحن نراه في نظرية ابن خلدون في المقدمة، إذ أن الإنسان في حركته من البداوة إلى الحضارة ومن حيث يروم من هذه الحركة إغناء عيشه وتقوية شأنه إلا أن الحضارة نفسها تضعف قوته وتُهدفه للفناء، ونراه عند هيجل في وصفه لمسار الروح في التاريخ وكيف أن الروح تتوسل بنوازع البشر ومصالحهم وأهوائهم لبلوغ غايتها القصوى وهي الدولة، وأن هذه النوازع باندفاعها لإشباع نفسها إنما تبني سجنها، كمثل الماء الذي تستخدم قوة اندفاعه في بناء السد الذي يصده، كذلك فالحرية التي هي روح العالم والغاية المرجو تجسدها في التاريخ إنما يكون تجسدها في الدولة التي لا قوام لها بغير كبح هذه الحرية. ونجد من قوانين النسبية الخاصة في الفيزياء كيف أن الجسم في تسارعه كلما اقترب من سرعة الضوء ازدادت كتلته وبالتالي قصوره الذاتي الذي يكبح تسارعه نفسه ويحده.

ومن تجليات هذا القانون ما ينجم عن مسعى الإنسان لفهم الحقيقة وتعرفها، هذا المسعى الذي تنبني عليه الفلسفة والعلوم، بل بنيت عليه الأديان والشرائع، حين يتحول مسعى الإنسان لفهم الحقيقة ومعرفتها حجابا دونها. هذا المظهر قد ترجم في التاريخ الإسلامي إلى ذلك التنازع الذي لا ينتهي بين الفرق والمذاهب على حين كانت الغاية من نشأتها تصدي العلماء المسلمين لدفع الشبهات عن العقيدة حفاظا عليها، وترجمه "توماس كون" في تاريخ العلم الحديث حين وصف البارادايم أو "النموذج الإرشادي" وهو مجموع القواعد والنظريات وطرق القياس التي يبنيها العلماء أداة فعالة للتقدم في البحث والكشف، غير أن هذه النموذج نفسه بعد أن يكون المراد منه سيطرته على موضوعاته، يصبح مسيطرا على عقول من صمموه واعتمدوه فيحجبهم عن الالتفات للحقائق التي من شأنها أن تبين نقص هذا النموذج وخلله. 

فليعلم المتكلم حده من الدين، وأن موقعه منه موقع الحارس في طريق الحج، فإذا تجرد الحارس للحراسة، لم يكن من جملة الحاج، والمتكلم إن تجرد للمناظرة والمدافعة ولم يسلك طريق الآخرة، ولم يشتغل بتعهد القلب وصلاحه لم يكن من جملة علماء الدين أصلا

هذه الجدلية في نطاق العلم أومأ إليها القرآن: "وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ" والمقصود أن العلم كان المراد منه عند الأقوام الذين نزلت عليهم الرسالات أن يكون جامعا لهم، وإنما تفرقوا بعد مجيئه بحسب هذه الجدلية، والبغي معناه في هذا السياق شطط الذين أوتوا الكتاب في تناولهم لحقائقه وتحول فهومهم له لتكون حقائق في ذاتها، فكان البغي حين انتقلت سلطة فهومهم من كونها سلطة على النص إلى كونها سلطة عليهم بعضهم على بعض.

وقد تنبه الغزالي إلى هذا البغي في تصور علماء الدين لمباحث علومهم، وقد لاحظ أن علمي الفقه والكلام انتقلا من كونهما علوما خادمة للدين في غايته ومراده إلى كون هذه العلوم غايات في ذاتها، وهو ينبه إلى مراعاة حدود هذه العلوم في مقدمة الإحياء، يقول:

"فليعلم المتكلم حده من الدين، وأن موقعه منه موقع الحارس في طريق الحج، فإذا تجرد الحارس للحراسة، لم يكن من جملة الحاج، والمتكلم إن تجرد للمناظرة والمدافعة ولم يسلك طريق الآخرة، ولم يشتغل بتعهد القلب وصلاحه لم يكن من جملة علماء الدين أصلا، إذ ليس عند المتكلمين من الدين إلا جملة العقيدة التي يشاركهم العوام فيها" (الإحياء ج1 ص 84)

والغريب في حالة الغزالي في الإحياء أنها حالة نقد منهجي داخلي لمناهج العلم ولطبقة العلماء في عصره إلى جانب كونها حالة محاسبة عميقة للنفس. وقد سألت أحد المتصدرين لعلم الكلام عن رحلة الإمام الغزالي وعن ذكره لعلم الكلام في رسالته "المنقذ من الضلال" وكيف أنه عد علم الكلام إنما منتهاه المحاججة عن العقائد وأنه لم يفده في تبديده شكه، فكان جوابه أن رسالة الغزالي هذه إنما كانت الغاية منها وصف رحلته في تزكية نفسه لا أكثر، وأن مأزقه لم يكن مأزقا معرفيا بل روحيا. مع أن كلام الغزالي بعد رحلته وموقفه من علم الكلام لا يخفى على مطلع.

والحاصل أن غاية الغزالي إنما كانت التنبيه على حدود مباحث العلم والتحذير من مغبة تجاوزها والبغي بها، وقد كان زمن الغزالي زمن تحول مهم في تاريخ المذاهب الإسلامية، فقد اختمرت المذاهب في عصره وتحولت إلى مؤسسات (مدارس) قائمة مرعية من الوزراء والأمراء، وقد كان عصره عصرا اضطرم فيه الصراع بين تلك المدارس، وقد كان الغزالي نفسه ممن تصدر في هذا الصراع بردوده القوية على الباطنية والفلاسفة. وقد كان تنبه الغزالي لتحول علماء الدين عن خدمة الدين إلى خدمة مذاهبهم وانتصارهم لها نذيرا له – وهو من جملتهم- لإنقاذ نفسه أولا من أن يكون باغيا على نفسه وعلى الدين، ومن ثم إنقاذ من يأتي من المتعلمين والمشتغلين بعلوم الدين فلا يميتوا ما من وظيفتهم إحياؤه.

نحن نشهد في حالنا الراهن تحول علماء الدين إلى سدنة للسلطة السياسية لغاية الحفاظ على علومهم ومباحثهم أن تفنى مع الزمن، ولو فني الدين كله ومعه المسلمون جراء ذلك، فبعد أن كان المقصود من علومهم صيانة الدين وحفظه أصبحت معاول لهدمه

ولعل هذا الانتقال في سلطة العلوم من موضوعاتها إلى أن تكون سلطات مطلقة تحتكر الحقيقة وتفتئت على الناس هو مما يفسر كيف تتحالف المذاهب مع السلطات السياسية، وقد بين ميشيل فوكو كيف تكون المعرفة سلطة على أذهان الناس لغاية خدمة السلطة السياسية. فاجتماع التسلطين والبغيين مفهوم بهذا الاعتبار الذي ذكرناه.

وها نحن نشهد في حالنا الراهن تحول علماء الدين إلى سدنة للسلطة السياسية لغاية الحفاظ على علومهم ومباحثهم أن تفنى مع الزمن، ولو فني الدين كله ومعه المسلمون جراء ذلك، فبعد أن كان المقصود من علومهم صيانة الدين وحفظه أصبحت معاول لهدمه. كما أن مما يتحقق في هذا المضمار ما نراه من تحول العلم ومباحثه إلى مظنة للخلاف بين الأقران، بل وازدراء بعضهم بعضا، واستحالة الحقيقة بضاعة يحتكرها كل صاحب علم ويحصرها في مباحثه. بل لا يخلو كل متصدر لعلم من العلوم من جعل علمه هو المبحث الشريف والعلم المكنون، وأن بالاشتغال به النجاة والفلاح، وقد ذكر ذلك الشهرستاني في كتاب الملل والنحل كيف أن أصحاب كل فن جعلوا فنهم هو أشرف الفنون والعلوم .

ومن الغريب أن الشهرستاني قد بين في مقدمة كتابه أن اختلاف الملل والنحل أصله خطيئة إبليس التي أوجبت عليه اللعنة، والتي كان مصدرها "استبداده بالرأي في مقابلة النص، واختياره الهوى في معارضة الأمر، واستكباره بالمادة التي خلق منها وهي النار على مادة آدم وهي الطين"، ثم هو يقرر بعدها أن كتابه سيومئ إلى حقيقة الفرقة الناجية فيتعرفها من يقرأ ضلالات الفرق الإسلامية الأخرى.  وعلى هذا المنوال قدحَ في الشهرستاني نفسه معاصروه ونسبوه للفرق "الضالة". هكذا – وعلى القانون نفسه – تتحول الحقيقة الجامعة والبحث عنها إلى صراع للفرق وتصير كل فرقة مُهلكة لمن بإزائها ولا فرقة ناجية …!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.