شعار قسم مدونات

ثورات.. خارج الصندوق

blogs طفل ينظر من ثقب

ليست فكرة جديدة تلك التي يوحي بها العنوان. بل هي فكرة طالما رددناها ودرسناها وتداولناها فيما بيننا لكي نقدم ما هو جديد دائماً، ولكن دون أن نشعر كنا نقولب تلك الفكرة ضمن صندوقها الخاص، الذي ربما كان يختلف قليلاً عن الصندوق الاعتيادي الذي ندعو بإلحاح للخروج منه في طرائق تفكيرنا من الناحية الشكلية. لكن المضمون المكبل إلى رؤوسنا المستمرة بالعمل بنفس الطريقة منذ ألف عام، مازال يرخي بظلاله (التي تحترف الحسم والإطلاق ورومانسية الحل الوحيد والخلاص السماوي)، على عالمنا المليء بالمشكلات، والتي تحتاج تفكيراً حقيقياً خارج الصندوق.

يوم كانت الثورة، كانت البداية لإعلان أن هذا الصندوق لم يعد يتسع لنا، لم يعد يناسب مقاس طموحاتنا، لم يعد يستوعب أفكار جيل جديد يطمح لنيل حريته وكرامته. يومها فقط توسعت أضلاع الصندوق، بل وتحطمت بعض جدرانه، كان الأمر وشيكاً، كان هذا الصندوق يوشك على الانهيار والتحطم، لولا أن قوةً خارقةً في عقولنا أعادت ترتيب أضلاعه بأبعاد مختلفة تتسع لكل الأشياء الجديدة التي جئنا بها، والتي لم يعرفها الصندوق من قبل، لنعود للدوران من جديد في دوامة جديدة صار يطلق عليها اسم الثورة ونلعن الدوامة الماضية التي أطلقنا عليها اسم النظام .

إن التفكير خارج الصندوق ليست معادلة مستحيلة، كما أنها ليست أمراً سهلاً كما يعتقد البعض، إنه أمر يحتاج لكثير من المرونة العقلية، يحتاج إلى تجاور الوعي والحرية في البيئة العقلية العربية المثخنة بضربات الماضي وأيديولوجياته الحاسمة

محترفون نحن في صناعة الصناديق واختراع الدوامات، محترفون نحن في نحت التماثيل وجعلها أصناماً تعبد، محترفون في تقييد رؤانا وعقولنا ضمن مسلمات ندرك أننا من يصنعها ثم نعتقد فيها الحقيقة المطلقة، محترفون منذ ألف عام تقريباً في صيانة وتجميع الصناديق، ولكن الكلمة ثورة يجب أن تستعصي هذه المرة على الصندقة. يجب أن تعي الثورات أنها لا يمكن أن يسمح لها بالتشكل باتجاه واحد يعيد إنتاج المستبدين بطرق جديدة، عليها أن تكون جريئة بما يكفي لتكرر المحاولة كلما أحسّت أنها تفقد القيم التي قامت في سبيلها، فالقيم هي ما يحميها تجاه الصندقة المعتادة، ويجعلها عصية عن التكون كظلم جديد. 

إن التفكير خارج الصندوق ليست معادلة مستحيلة، كما أنها ليست أمراً سهلاً كما يعتقد البعض، إنه أمر يحتاج لكثير من المرونة العقلية، يحتاج إلى تجاور الوعي والحرية في البيئة العقلية العربية المثخنة بضربات الماضي وأيديولوجياته الحاسمة، والتي تحولت إلى قولبة يصعب الخروج منها إلى أشكال جديدة كلياً.

غالبا ما يحاول العقل أن يبحث عن الراحة في كل المشكلات التي يواجهها، أن يجد حلولاً ضمن الطرائق المعتادة للتفكير، أو لنقل ضمن الصناديق المعتادة، أن يركن إلى عادات تفكير معينة تربى عليها، قد تكون تقليدية، وقد تكون مليئة بالجدّة والابتكار _ بحسب الاعتياد السابق الذي صاغه _ ولكن حتى التفكير الإبداعي لا يخلو من الصندقة حينما يصير هو الغاية، وهو الطريقة التي نؤمن أنّها الحل القادم لا محالة، مع تجاهل لكثير من الأشياء التقليدية مهما كانت صحيحة فقط لأنها معتادة وغير جذابة، لا تمثل تلك النظرة الإبداعية التي ينطلق منها صاحب التجربة.

أن تفكر خارج الصندوق هو أن تفكر بطريقة مختلفة، مختلفة فقط، عن كل الأشياء التي اعتدت عليها، أن تمتلك المرونة الكافية لكي تبتعد عن حمى الحسم والإطلاق، أن تفتح الأفق لخيالك ولعينيك لترى الصورة الكاملة، لتحاول البحث عن كل الحلول الممكنة بطريقة فطرية، بعيدة عن الانحياز لأفكار وطرائق مسبقة، مع عدم التخلي عنها بشكل كامل. هناك الكثير مما نهمله في الحياة من الأمور شديدة البساطة، ربما تكون غاية في الإبداع، كما أنّ هناك حجم كبير من الأفكار التي توصف بالابتكار لن تكون نافعة ضمن ظروف واقعية شديدة الصعوبة. 

أن تفكر بطريقة مختلفة هو أن تستطيع أن تفتح عينيك على الأمرين معاً.. إنه ليس أمراً سهلاً خاصة ونحن نلهث لإيجاد حلول لمشاكل أصبحت الدماء هي فاتورة الزمن الذي يُستهلك من أجلها، ولكن بعد كل هذه السنوات ربما علينا أن نؤمن بضرورة المجازفة، عسى أن نستطيع الوصول إلى حلول أكثر استدامة.

ما أريد أن أختم به في مقالتي هذه، هو تلك الفكرة التي لا تلعن أي شيء، سأكون أكثر صراحةً ووضوحاً، أكثر منطقيةً، من أجل أن نصل إلى حيث ينبغي في تفكيرنا لإيجاد حلولٍ لمشكلاتنا. تعالوا لنجرب الصندوق مرة أخرى، تعالوا لنكون أكثر قدرة على التحكم به، لنقولب فكرنا في المواضع التي تحتاج إلى قولبة، ولنعلنها حرةّ عندما نشعر أننا بحاجة للحرية، هذه هي الفكرة الحقيقة التي تجعلنا خارج الصندوق بطريقة صحيحة وحقيقية. 

يجب أن نكّف عن الظن بأننا الفرقة الناجية التي لم يهدّ أحدٌ سواها، أو بأننا العباقرة الذين لن يهتدِ للحل سواهم، أو أننا النخبة التي ستفعل وتنجز وتغير، وتقرر الحقائق باجتهادها ليؤمن بها الآخرون بصمت واستسلام

إنها صفعة للتفكير أن تطلب منه التحرر والانغلاق في وقت واحد، صفعة لقدرات اعتدنا عليها، ولكنني أؤمن أن الحرية وطرق التفكير الجديدة والمختلفة، هي استبداد فكري جديد، سرعان ما يصبح سجناً على هيئة صندوق متسع إذا ما تم فرضه على عقولنا وإقناعنا بالمطلق أن لا حلّ إلا بذلك.

المطلق الوحيد هو أننا نمتلك قدرات كبيرة ضمن مجالنا الذي خُلقنا فيه، قدرات تستعصي على التكون باتجاه واحد، قدرات متفاوتة بتفاوت حاجاتنا في الحياة، وإننا نمتلك الإرادة الحرة والكاملة في اختيار طريق أداء دورنا، ونعلم أن للآخرين أدواراً تتطلب منّا أن نفهم ما هم عليه، أن نتفهم ذلك. وألا نسعى لتطبيق نظرياتنا التي نعتقد أنها الحلول المعصومة على كل ما يحيط بنا، أن نكّف عن الظن بأننا الفرقة الناجية التي لم يهدّ أحدٌ سواها، أو بأننا العباقرة الذين لن يهتدِ للحل سواهم، أو أننا النخبة التي ستفعل وتنجز وتغير، وتقرر الحقائق باجتهادها ليؤمن بها الآخرون بصمت واستسلام. 

الجميع جدير بذلك، جديرون بالمحاولة على الأقل، وإن حجم بلدٍ يمتد على ملايين الناس، يحتاج لهذه الملايين ليصنع نهضته، يحتاج لأن يؤمن هؤلاء أنّهم قادرون، "أن تكون خارج الصندوق، هو طريقة أنت تقررها ولا يمليها أحدّ عليك".  هذه هي قيم الثورات التي ننتظرها حقيقةً، والتي نؤمن أننا خرجنا في سبيلها منذ أول صرخة، نحملها على أكتاف أرواحنا كإيمانٍ مرتجى، لم نعتد عليه، ولكننا نحاول أن نصل. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.