شعار قسم مدونات

عهد ملوك الطوائف.. ليس كما نعتقد

blogs - الأندلس

يصف الناس عهد ملوك الطوائف في الأندلس بأكثر الفترات انحطاطا في تاريخها، قلّما تذكر سيرتهم دون شتم وتخوين وإساءة، ملوك مهادنين خائنين انصرفوا نحو مصالحهم الذاتية، يحكمون شعوبا لا مبالية منغمسة في الشهوات الحسية، لاهين لاعبين عابثين بإرث أجدادهم الحضاري.

 

لم يرحمهم الواقع الذي لا ينفك عن عقد مقارنة بينهم وبين ملوك الحاضر، كما لم يرحمهم التاريخ الحانق على المآلات السياسية والارتهان للآخر.. تزخز مؤلفات التاريخ وأمهات كتب الأندلس بأوصاف تعكس هذا الانطباع، فهم الـ "خول لأعدائهم" حد تعبير ابن عبد البر، وهم "أمراء الفٌرقة الهمل الذين ما بين فشل ووكل" حسب وصف ابن بسّام.

 

وربما تفهم هذه الأوصاف في إدراك سياق حالهم، أمراء متناحرين مهادنين للعدو في مساحة جغرافية لم تتجاوز في أكبر اتساع لها ثلثي مساحة مصر، تضم آنذاك أكثر من عشرين زعيما مفرقين على دويلات مستقلة كل واحد فيهم تسمى باسم ملك أو خليفة أو أمير للمؤمنين!

 

لكن بالرغم من المآلات السياسية وبؤس انعكاساتها، إلا أن الأندلس لم تشهد فترة أكثر إشعاعا وتوهجًا بالإنتاج الثقافي والفكري كالذي حدث إبان عهد ملوك الطوائف. مع القراءة أكثر فأكثر عن تلك الفترة ستكتشف حقيقة دامغة: مطّ الحالة السياسية وتعميمها فيه خلط كبير وتجنّي بارز.

 

لقد شهد عصر ملوك الطوائف تمزقا في الوحدة السياسية تعاظمت معه صور العصبية الجهوية، إلا أن الحياة العلمية والثقافية والفكرية كانت على النقيض في أوج مآلاتها، جاءت هذه النتيجة كحتمية تاريخية لميراث الماضي وتراكم المعارف من جهة، وكمحاولة لإضافة الشرعية التنافسية وتعظيم الإمارات فكريا من جهة أخرى.

 

قبل عصر الخلافة شعر الإنسان الأندلسي بنوع من الدونية والنقص مقارنة بإخوته المشارقة، والأسباب في ذلك كثيرة أهمها قرب المشارقة من المصدر الديني باعتباره مهدا للثقافة الإسلامية، وأقصد بذلك الحجاز والقدس الشريف. أثّر هذا الشعور على محاولة الإنسان الأندلسي تعويض نقصه بالتفوق المعرفي والبحث العلمي لإثبات تميّزه بالرغم من البعد الجغرافي عن منبع اللغة العربية ومهبط الرسالة السماوية.

 

ومع حلول عصر الخلافة في الأندلس أي بعد أكثر من ثلاثة قرون على دخول المسلمين لأيبيريا، برز الوجه العلمي المستقل لأبنائها أخيرًا. نستطيع القول هنا إن الإنسان الأندلسي بدأت ملامحه العلمية تتشكل في كيان أو هوية شخصية ذات منازع استقلالية بعد عصر الخلافة الذي قضى ما قبله بأخذ مشارب العلم عن المشارقة.

 

وقد اتضح هذا الوجه الجديد للإنسان الأندلسي في أكمل صوره في عهد ملوك الطوائف، إذ برزت حينها الكتابات التي من شأنها تعظيم فضل علماء الأندلس عما سواهم في مختلف أرجاء خارطة العالم الإسلامي، بل أن ابن حزم ألف رسالة كاملة في فضلهم وتصنيفهم يجمع فيها ثمار الفكر الأندلسي ممتدحا الحياة العلمية الأندلسية مع عقد مقارنة بأندادهم المشارقة.

 

هذه الاستقلالية الفكرية إن صح التعبير تجّلت في الرحلات الفكرية ما بين المشرق والمغرب في عهد ملوك الطوائف وتحديدا في القرن الحادي عشر من الميلاد، إذ لم يعد الإنسان الأندلسي مهاجرا للمشرق بقصد العلم والتعلم فقط بل بغرض اعطاء المعارف وبذلها أيضًا.

 

في عهد ملوك الطوائف نشطت حركة تجارية الكتب وازدهرت الرحلات الفكرية وتبادل الترجمات والمصنفات والنقشات الفكريّة. بل إن أهم كتب الفكر والأدب والمعارف القادمة من المشرق دخلت الأندلس في عهد ملوك الطوائف وأهمها كتاب القانون لابن سينا وكتب الفارابي والخوارزمي وديوان المتنبي ومقامات الحريري ورسائل البديع الهمذاني.

 

وعلى عكس ما يصور، فإن النزاع العسكري والسياسي انعكس بشكل محمود على طبيعة التنافس الثقافي والفكري بين الطوائف، فكل زعيم دويلة من دويلات الأندلس اهتم بالعلماء ودعمهم كضرورة مُلّحة للتفاخر والظهور بهالة الرياسة. فقد كان لكل ملك منهم نزعة استقلالية عالية في الاهتمام بالفقهاء والعلماء والشعراء مما أدى لإنتاج غزير وغني لأمهات كتب الأصول والعلوم والمؤلفات الضخمة عند قادة الفكر الأندلسي الذين أثروا المكتبة الفكرية الإسلامية ككل.

 

في عهدهم أصبحت مدن الأندلس عواصم ثقافية وكل طائفة لها اختصاص بارز، مثلًا اهتمت كل الطوائف بالأدب ومجالسه. إلا أن إشبيلة بزعامة بنو عباد كانوا المنبر الأبرز في هذا المضمار التنافسي، كما لم تشهد طليطلة مع حكم ذي النون إنتاجا أضخم في العلوم التجريبية من رياضيات وفلك وفلسفة وغيرها كما كان في عهدهم، وقسّ على ذلك تنافس كل بلاط ملكي من ملوك الطوائف باهتمام علمي وثقافي خاص لخلق بؤرة ثقافية مسيطرة تعرف الطائفة من خلالها. أما إن أردنا تفصيل الحياة العلمية عن كل طائفة على حدة فلن تتسع المدونات، ابحث مثلا عن مملكة دانية الإسلامية في عصر مجاهد العامري.

 

يبدو الأمر غريبًا، أليس كذلك؟ إدراك تداعيات ظلال العصور السابقة من أهم ما سيساعدنا في استيعاب هذه الحالة.. فالأندلسيون مجّدوا فقهاءهم وعلماءهم كمحاولة لتقليد أسلافهم الأمويين من جهة ولإضفاء نوع من الشرعية على سلطتهم التي تحاكى هالة الأمويين العلمية، في عهد ملوك الطوائف لم تعد مكتبة قرطبة المركزية وحدها أيقونة مقرّ الخلافة كما كان، بل دشنت مخازن الكتب عند كل طائفة وتنافس القوم في جلب الكتب إلى ممالكهم الصغيرة. صاحب المكتبة الأكبر هو الأعظم شأننا.

 

بالمناسبة، أسهب المستشرق والمؤرخ الإسباني "آنخيل بالنثيا" في كتابه المهم "تاريخ الفكر الأندلسي" حول ذلك، إذ تحدث بتفصيل حول نواحي الفكر الأندلسي بكل جوانبه الشاملة، مفردًا في حديثه عصر ملوك الطوائف والحركة العلمية الضخمة التي ازدهرت فيه في شتى مجالات العلوم العقلية والنقلية والتصوف والآراء والفرق وسواها مقارنة عن بقية عهود الأندلس.

 

من أبرز علامات النضج الفكري الذي تحرر من سطوة السطلة آنذاك دور الوساطة الدينية التي قام بها علماء الدين عند تصعيد موقفهم بعد حادثة الزلاقة، بإصدار فتاوى فقهية تتيح لابن تشفين المرابطيّ تأديب المتخاذلين في الأندلس من حكامهم

من المهم الأخذ في الاعتبار أيضًا أن مفكري الأندلس لم يكونوا دائمًا في صفّ السلطة الحاكمة حتى وإن حاول زعماء الطوائف استخدامهم، صحيح أن كثير من العلماء تبنّوا مبدأ الواقعية في عدم مواجهة أو معارضة أنظمة الطوائف السياسية، إلا أن كثير منهم كانوا في مواجهة دائمة مع الحكّام لما يستشعرونه من واقع أليم.. برزت روح نقدية ثائرة تحذر بشدة من الاستمرار في هوان ملوك الطوائف بأقلام حرّة، مما خلق حالة من الحراك الفكري المناوئ للسلطة. وقد دفعت أثمان كثيرة في سبيل ذلك.

 

على رأسهم الفيلسوف الحب الفقيه ابن حزم الذي طعن في شرعية أنظمة ملوك الطوائف بكل ما أوتي من جرأة وقد حظي في بعض مواقفه بمساندة شعبية، ومن ينهم أيضًا الفقيه الباجي الذي نادى بضرورة الوحدة والتعاضد والشراكة في التصديّ للخطر الصليبي المواجه في المشرق والمغرب على سواء، كما وقف في مواجهة التيارات السياسية داعيا لوحدة الصفوف والتصدي للنزاعات. ولا ننسى في هذا الشأن ابن عبد البرّ الذي وإن كان مهادنًا للسلطة في كثير من الأحيان إلا أن له مواقف جمة إلى جانب أبي حفص عمر بن الحسن الهوزني وسواهم.

 

 ولعلّ من أبرز علامات النضج الفكري الذي تحرر من سطوة السطلة آنذاك دور الوساطة الدينية التي قام بها علماء الدين عند تصعيد موقفهم بعد حادثة الزلاقة، بإصدار فتاوى فقهية تتيح لابن تشفين المرابطيّ تأديب المتخاذلين في الأندلس من حكامهم باعتبار الأندلس صمام الأمان أمام خطر الحروب الصليبية المتاخمة لكل المنطقة.

 

هناك أيضًا عوامل نفسية مهمة تستنج من خلال دراسة المجتمع الأندلسي آنذاك، ويمكن أن تلخصّها نظرية "التحدي والاستجابة" التي تعد من أهم نظريات فلسفة التاريخ للمؤرخ البريطاني "آرنولد تويبيني" مفادها أن الفرد عند تعرضه للأزمات سيستجيب سلبًا أو إيجابًا، ومن صور الاستجابة ما وجدناه من خصوبة ثقافية هائلة في عهد ملوك الطوائف، فقد غدت البيئة المتردية سياسيًا حافزًا مهما لدى مفكري الأندلس، وهنا شكّلت أزمة الفرقة تحديًا استوجب الإجابة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.