شعار قسم مدونات

تونس الثورة.. إلى أي هاوية تسير؟

People attend celebrations marking the sixth anniversary of Tunisia's 2011 revolution in Habib Bourguiba Avenue in Tunis, Tunisia January 14, 2017. REUTERS/Zoubeir Souissi

يحتاج كل جيل إلى ثورة وتحتاج كل أمة إلى صحوة. لكن ماذا لو حلت الثورة في غير وقتها؟ ماذا لو اتخذت شكلا غير شكلها؟ ماذا لو انحرفت الثورة عن مسارها وهوى فأس الفتنة على أهدافها؟ ماذا لو حكم أعداء الثورة في عصر الثورة؟ وأخذ أعداء الثورة زمام الثورة؟ ماذا لو تخلى الثائر عن ثورته؟ أليس حاله كشريف تخلى عن شرفه؟ كيف يكون المبدأ مبدأ إن تم بيعه وشراؤه وتغييره حسب الأهواء والنزوات؟ كيف سيتحقق الحلم وصاحبه في النوم غارق والزمن من حوله يسلب الآمال والأنوار ويرديها سوادا قاتما يفقأ العيون؟ إلى أين؟ إلى أين يؤدي طريق لا تلتمس فيه ثورة؟ إلى أين يؤدي طريق تونس اليوم؟ وأين ينوي قادتها إرساء سفينتها؟

تونس، أفريقية التاريخ وعروس المتوسط ومهد الثورات، تعيش اليوم صراع البقاء وتحارب من أجل الثبات، من أجل حرية أولادها ومستقبل أبنائها ومجد أسلافها. تتخبط تونس اليوم بين غياهب الفساد واستمرارية حكم العصابات والسعي الأزلي لإبقاء الاستعمار قائما.
 

إن العجز لا يبرر والتخلف لا يعذر صاحبه ولو اجتمعت عليه أمم الدنيا وحضارات التاريخ، فمن أراد المجد وسار لا الجبال تعطله ولا همم البشر توقفه

تونس دولة عربية ودينها الإسلام. سببان كافيان لتكون ضمن المستهدفين والمحكوم عليهم بالتأخر والضلال، كفيلان بقتل كل أحلام ثورتها ونهضتها ومحاولة القفز نحو المجد للالتحاق بركب السابقين. فهذا العالم الذي يشهد عدوانا على العالم العربي والإسلامي، لن يعفي تونس من حكمه وجبروته. فكل من يدعي بطلان نظرية المؤامرة وانعدامها في ظل التحالفات والتجمعات التي يشهدها المشهد الإقليمي اليوم، ليس يدري حجم تغلل آليات التحكم والسيطرة التي خلفتها موجات الاستعمار من القرن الماضي. لكن هل يبرر كل هذا ما وصلت إليه دول العالم العربي والإسلامي عامة وتونس خاصة من قهر وتقهقر على جميع المستويات؟ أين الشعب والشباب والحلم والأيام؟

إن العجز لا يبرر والتخلف لا يعذر صاحبه ولو اجتمعت عليه أمم الدنيا وحضارات التاريخ، فمن أراد المجد وسار لا الجبال تعطله ولا همم البشر توقفه. فماذا حل إذن بتونس الخضراء؟ إن كل ثورة يكتب لها النجاح والبقاء رغم الداء والأعداء، هي الثورة الشاملة والعامة، هي الثورة التي لا تشمل مجالا وتتجنب آخر، هي الثورة التي يصلح أصحابها أنفسهم قبل إصلاح أي جزء من المنظومة السائدة والمراد تغييرها. إن ثورة تونس هي ثورة بالبعد الجلي والظاهر لمفهوم الثورة والقائم على تعريف الثورة بالتغيير السريع والمفاجئ لنسق ونظام تم اعتماده والعمل به، وهو ما حدث في تونس ومن لحقها من دول الثورات. لكن البعد الأعمق والركيزة الأساسية التي تبنى عليها أمجاد الشعوب والأفراد وتتحقق من بعدها الأهداف والأحلام ويعتبر أثرها أزليا وتاريخيا، هي الثورة الأخلاقية. إن الثورة الأخلاقية هي أول خطوة يجب على كل ثائر الإيمان بها والعمل على تحقيقها. فهي المهد لكل تغيير ناجح وفيها تضبط أخلاقيات الثورة السياسية والاقتصادية والعلمية والمعرفية وما إلى ذلك. ومثالنا في هذا الحديث تونس التي قامت فيها ثورة عظيمة، لكن تنقصها ركيزة.
 

أيام الثورة أصبحت معدودة وعهد بن علي بان في الأفق من جديد بسيناريو جديد وشخصيات متجددة، عرفناها سابقا وها نحن نتعرف عليها من جديد لكن من مواقع مختلفة، لكن مازال في الحلم أمل مادام القلب يخفق كلما حلم بوطن جميل

إن الثورة التونسية الشعبية كانت مثالا جميلا لإرادة شعب حر مستعبد تواق إلى الحرية والكرامة. إن العيب في الثورة التونسية ليس في شعبها المسكين بل في نخبتها الفقيرة فكريا وأخلاقيا. فالثورة الشعبية خلقت فضاء مثاليا وفرصة تاريخية لهذه النخبة لكي تلتف حول شعبها وتأسس ميثاقا وعرفا أخلاقيا ثوريا ينهض بالعقول ويؤطر الحراك الشعبي القائم آنذاك. لكن الهوة القائمة بين الأطياف السياسية حالت دون ذلك. فقد تم النظر إلى هذا الإنجاز كوليمة أو فريسة يجب الانقضاض عليها لتحقيق الحسابات الضيقة والمصالح الشخصية. فدخلت الطبقة السياسية المتعطشة إلى الحكم وممارسات الديمقراطية والجاهلة بقواعد الثورات والنهضة الفكرية في صراع جاهلي حول الكراسي، وراح الشعب المسكين يتلقى صفعات الخيبة الواحدة تلو الأخرى وحاول كل شق من الشعب الواحد الايمان بطيف سياسي رأى فيه القدرة على قيادة سفينة قوية وعتيدة السلاح لكنها ضالة للطريق، لكن سرعان ما خاب ظن كل الشقوق.

إن الوضع التونسي اليوم حرج، فقد عاد المعتاد إلى عادته، فالفاسد على فساده دائب والسارق لوطنه ناهب. عاد الغني إلى احتكاره وهام الفقير على وجهه. عاد الساسة إلى دكتاتوريتهم وعاد الشعب المسكين إلى معاناة جديدة قديمة. يبدو أن القادم أصعب مما مضى، فلا الظروف الداخلية تبشر بخير، فالفساد مستفحل والشعب في سبات عميق، لا الهمم عازمة على العمل والشباب إما الهجرة أو الإرهاب، ولا الظروف الخارجية تدل على فرج في الآفاق، فكل الثورات لاقت مصيرا أتعس مما آلت اليه ثورة تونس، والشعوب الأخرى فضلت السلام على مالا يحمد عقباه. قد يغض الحاضر الطرف عن كثير من الأمور والمسائل، لكن التاريخ لا يرحم، ولن يرحم أعداء ثورة تونس وساستها، فالتاريخ إن أعطى فرصة فعقاب من يضيعها عسير، وهو ما بدأنا نتحسس آثاره بعد ستة سنوات من الثورة والزحف نحو مشروع الوطن الأحسن والأجمل.

أيام الثورة أصبحت معدودة وعهد بن علي بان في الأفق من جديد بسيناريو جديد وشخصيات متجددة، عرفناها سابقا وها نحن نتعرف عليها من جديد لكن من مواقع مختلفة، لكن مازال في الحلم أمل مادام القلب يخفق كلما حلم بوطن جميل، اذ لا تزال الشرارة قابلة للاشتعال، وكل ثورة هي مفاجأة لم يقرأ لها حساب. فهل ستحمل لنا الأيام القادمة أية جديد؟ وهل سنرى بعدا آخر للثورة التونسية؟ أم أن الهاوية تنتظر؟ وإن كان، فإلى أي هاوية؟ …

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.