شعار قسم مدونات

ديمقراطية الصف العاشر "ب"

blogs - jordan school

عندما كنتُ بالصفِ العاشر، طبقت وزارة التربية والتعليم خطة جديدة على المدارس بهدف التطوير التربوي، وكان من بين أهدافِها ما عرف آنذاك "بالبرلمان الطُلابي". طبعاً وبعد إلحاح "المواطنين" -أقصد الطلاب- قمت بترشيح نفسي للانتخابات، وأذكر أنني كتبتُ بياناً انتخابياً من ثلاث صفحات وبخطٍ صغير، وضعتُ فيه خطة متكاملة لعمل المجلس وأداءِه، وشرحتُ فيهِ رؤيتي وما أنوي القيام به.

 

المهم أنني فزت وحصلت على المركز الثاني من مجموع الأصوات و"تقلَّدت" منصب نائب رئيس البرلمان، وبعد هذا "العرس الديمقراطي" التقينا كأعضاء برلمان طلابي بنائب مدير التربية والتعليم آنذاك – لا زلت أذكر اسمه- وفي معرض اللقاء سألت "عطوفته" عن سقف الحرية الممنوح لنا وعن هامش تحركاتنا وتأثيرنا، فما كان من الرجل إلا أن انتفض.. وقال لي بالفم الملآن وعلى الملأ: "إذا كان والدك ينتمي لحزب وتريدين الترويج لأفكاره وأفكار حزبه هنا.. فهذا ليس مكانه وهو أمر غير مسموح!"

 

يبدو أن تجربتنا الديمقراطية لا زالت بالصف العاشر وربما أصغر، غادرتُ أنا غرفةَ الإدارة لكنها لا زالت تجلسُ على مقعدي منذ عشرين عاماً، حيث لا فرق في مبدأ وصاية المسؤولين بين تلميذٍ صغير ومحامي!

استغربت من جوابه، وأجبت بالنفي وأضفت: أن هذه تجربة ديمقراطية كما تَدَّعون، الهدف منها تعويدنا وتربيتنا على الممارسة الديمقراطية، وإذا كان الأمر كذلك فمن حقي أن أسأل عن أي شيء ومن واجبك أنت أن تجيبني. النتيجة كانت.. استجوابي بنفس اليوم من قبل مديرة المدرسة وملامح خوفها "عليّ" باديةً على وجهها وعلى وجوه مدرساتي وقد كانت علاقتي بهن مميزة وطيبة جداً.

 

وفي اليوم التالي تم استدعائي من الصف إلى غرفة الإدارة لأجد سيدة سمراء دقيقة الملامح تعابيرُ وجهها قاسية، كانت ترتدي ألواناً قاتمة "الأحمر والأسود" وقد عبثت حرارة الجو "بمكياجها" وتسريحة شعرها – لم تبدُ مريحةً بالنسبة لي على أية حال- سلمت عليّ وطلبت مني الجلوس، سألتني في البداية بضعة أسئلة وكان تركيزُها على والدي، وقد فَهِمتُ على الفور أن ما يجري هو تحقيق، ثم سرعان ما تحولت الأسئلة لنقاشٍ بين شخصين كبيرين وقد غيرت طريقتها بالحديث تماماً، وركَزَت على شخصي أنا.. اهتماماتي قراءاتي وجوانب أخرى. عندما انتهى اللقاء ودعتني السيدة بحرارة.. قَبَلتني وقد تغيرت تعابيرُ وجهها، ولازلتُ أذكر ابتسامتها العريضة ونظرةُ الإعجاب بعينيها.

 

بعد هذا الموقف بسنوات كثيرة، وتحديداً بعد استشهاد القاضي الدكتور "رائد زعيتر" بآلة الغدر الصهيونية عند معبر جسر الملك حسين، أذكرُ أنني وقفتُ وجهاً لوجه أمام "باشا" كبير في السن يرتدي لباساً مدنياً أنيقاً، أبيضُ الوجه ملامِحُهُ قاسية "لا يبتسم"، كان ذلك أمام المثلث المؤدي لسفارة العدو الصهيوني في عَمّان، بعد مسيرة "سلمية" للتنديد بمقتل القاضي الشهيد تمَ فَضُّها بالقوةِ التي أسفرت عن عدد من الإصابات والاعتقالات.

 

وقفتُ أمامه وأمام لواء من الأمن العام وقلتُ لهما: القاضي "زعيتر" ينتمي لمنظومةِ عملِكم، أنتم أصحابُ ثأر مِثلُنا بل أكثر، واشتكيتُ لهما ما تعرضنا له كمحامين وشباب وشابات من اعتداء بالضرب من قبل الشرطة، ولا أنكر هنا بعض المبالغات من بعض المشاركين وهو ما يحدث كثيراً في المسيرات والاعتصامات، غير أني صُدمت من ردة فعل ذاك الرجل "الأنيق" على تظلمي حيث ما كان منه إلا أن ابتسم ابتسامةً "صفراء" وقال بصوت هادئ مُستَفِز كَمُعَلمٍ فظ، وهو يعلم أنه يقف أمام شخص واعٍ وكبير: لو كنتِ الآن في منزلكم لما اعتدى عليكِ أحد!

 

بالصف العاشر أخبرني "العمّو" في وزارة التربية والتعليم أن ما أقوله، ليس هذا مكانه، وبعد عقدينِ من الزمن وقد أصبحتُ محامية وخلعت زيي المدرسي، يخبرني "العمّو الآخر" أن قولي الآن ليس هذا مكانه أيضاً وأن عليّ التزام البيت كي لا أُضرب! كبُرت أنا خلال هذين العقدين، لكن تجربتنا الديمقراطية يبدو أنها لا زالت بالصف العاشر وربما أصغر، غادرتُ أنا غرفةَ الإدارة لكنها لا زالت تجلسُ على مقعدي منذ عشرين عاماً، حيث لا فرق في مبدأ وصاية المسؤولين بين تلميذٍ صغير ومحامي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.