شعار قسم مدونات

عمائم الإصلاح وبنادق الكفاح (2)

blogs - guns
من حكمة الله البالغة أن جعل الخير والشر في الأرض فتنة واختبارا للناس ليميز الله الخبيث من الطيب، كما قال تعالى: ( ليبلوكم أيكم أحسن عملا) وإنه في مسيرة الأنبياء التي لخصها حديث أبي ذر الغفاري رضي الله وأن أول أنبياء بني إسرائيل موسى وآخرهم عيسى عليهما الصلاة والسلام، وأن ما بينهما من الأنبياء يبلغ ثمانية آلاف نبي لبني إسرائيل خاصة، ويتحدث مؤرخو الأديان من اليهود والنصارى والمسلمين بناء على القرآن والسنة أن الأرض بعد عيسى عليه السلام لم تقم فيها عمائم الإصلاح باسم الدين .

وهكذا فإن أي دعوة أو فكرة عبر التاريخ لم تتح لها الفرصة الكاملة حتى تدرس للناس وتطبق أمامهم وينقلها الجيل الذي عايشها نقلا عن علم وفهم، فإنها لا تصل للآخرين وصولا ينقلهم من الجهالة إلى العلم الحقيقي، بل قد يتمكن من أراد تحريفها أو تشويهها أو التقول عليها من ذلك ما شاء من ذلك كله كما فعل الحبر بولس شاؤول اليهودي.. ورغم ما تحمله الحواريون بعد عيسى عليه السلام من السير في الأرض والهرب بالدين، فإن تلك العمامة الإصلاحية العيساوية التي لم ترافقها بنادق الكفاح لم تحم نفسها أو تقيم دولة يعيش الناس في ظلها.

بعد التعليم يبقى بعض الجبابرة يقفون صفا واحدا يحجبون الشعوب عن الحق ويأخذون جميع التدابير العسكرية والاقتصادية والسياسية لمحاربة أي عمامة إصلاح حتى يحولوها عن منهجها السلمي.

ولكن تمسكوا بما فيها من رقة وحب للخير ورهبنة وانعزال للشرور حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم قال:( …وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ…) قد يكون منهم الملك الحبشي النجاشي وأمثاله ممن يحبون العدل ويكرهون الظلم، ومنهم القساوسة والرهبان الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.

فكانت الأرض على هذا الواقع حتى بعث النبي صلى الله عليه وسلم ليعلن على قومه أنه رسول الله إلى الناس كافة وبدأ معهم في البلاغ المبين لكل ما يوحى إليه ويردون عليه في الغالب بأبشع الردود وأقوى التكذيب، فصبر على ذلك وتحمل هو ومن حوله ممن تملي عليهم الروح النسبية النصرة والمؤازرة ولو مع المخالفة في الدين والرأي والسلوك، وقد ذكر لهم من خلال آيات عديدة وأحاديث كثيرة، أنه يمثل عمائم الإصلاح للأوضاع التي لا يختلفون معه على ترديها ، ولا يحوم حوله عندهم أنه يكذب على الله تعالى في هذه الدعوى الخطيرة.

وطالت مدة البلاغ والبيان والصفح والإعراض وتحمل الأذى بأصنافه والتي من أشدها على الصادقين سماع التكذيب بدون دليل يقاوم ما عندهم من حق، .. ولما كان في علم الله الأزلي أن الناس يدفعون الحق ويحسدون أهله ويقاومونهم حفاظا على موروثاتهم الجاهلية وتقليدا لآبائهم ولا ينقادون في أغلبهم للحق تصديقا له فقط واعترافا أنه حق بدون أن يحملوا على التخلي عن بطشهم وجبروتهم، لما يغلب على طبائع الناس من حب العناد واستعباد العباد حسب ما قال الله تعالى:

(ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم) فهذا الصنف من الناس لا ينقاد لعمائم الإصلاح ولكن تحيده بنادق الكفاح التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث : «إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، ..، وَإِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا، فَقُلْتُ: يَا رَبِّ، إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي حَتَّى يَدْعُوهُ خُبْزَةً، فَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، ..وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ يُنْفَقْ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نُمْدِدْكَ بِخَمْسَةِ أَمْثَالِهِمْ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ…) مصنف عبد الرزاق.

فبعد التعليم يبقى بعض الجبابرة يقفون صفا واحدا يحجبون الشعوب عن الحق ويأخذون جميع التدابير العسكرية والاقتصادية والسياسية لمحاربة أي عمامة إصلاح حتى يحولوها عن منهجها السلمي الإصلاحي ويلجؤوها إلى اتخاذ التدابير الكفيلة بالوصول إلى الشعوب مباشرة لتشرح لهم مقاصدها من الإصلاح والتعليم بدون إكراه من أحد أو حجب من أحد وبعد ذلك فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر.. ويتأكد ذلك الإعداد عندما يكون تشريعا من الله تعالى: ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير) ويندفع المؤمنون بذلك المنهج الإصلاحي يحملون بنادق الكفاح بروح من الفداء والتضحية عندما يسمعون الله تعالى يقول:

( …الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولو ربنا الله) فباجتماع عمائم الإصلاح وبنادق الكفاح يتم الدفع عن الضعيف والمظلوم وتصان الديار والحرمات وبيوت العبادة كما قال الله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا …) الآيات من سورة الحج. ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ بالقتال لأي جماعة حتى تكون هي البادئة بالاعتداء الفعلي أو التخطيط له، أو الوقوف بالقوة العسكرية والسياسية في وجه دعاة الدين الحق.

وقد تتبع القاضي محمد سليمان المنصورفوري في كتابه: (رحمة للعالمين) أسباب غزوات النبي صلى الله عليه وسلم واحدة واحدة ليتوصل إلى أن تسمية المتقدمين لها بالغزوات المفهوم أنه صلى الله عليه وسلم كان البادئ بجهاد الطلب والغزو للناس عسكريا ينقصه تتبع ذكر الأسباب الباعثة على التوسع عمليا على ذلك، …. وظلت الأمور الدينية والعسكرية والسياسية والاجتماعية واضحة المعالم يؤدي كل واجبه في مجاله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين وملوك الإسلام وخلفاء المسلمين.

معلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبدأ بالقتال لأي جماعة حتى تكون هي البادئة بالاعتداء الفعلي أو التخطيط له، أو الوقوف بالقوة العسكرية والسياسية في وجه دعاة الدين الحق.

ولا يقع الخلل في جانب من هذه الجوانب الأساسية إلا لتقصير أو قصور في ملاحظة واجب الاتحاد بين عمائم الإصلاح وبنادق الكفاح، التي تصون المسلم وغيره ما دام يريد الحياة الكريمة حسب موقعه في الوطن الإسلامي بغض النظر عن دينه ولونه وجنسه ..ويكفينا من الشواهد على انفصال عمائم الإصلاح عن بنادق الكفاح واقع الأمة المحمدية التي تسلط بعضها على بعض واستعان بعضهم على بعض بالأجانب المحاربين للملة المتشوفين دائما لأي فرصة سانحة للاستفراد بأحد الطرفين عمائم الإصلاح وبنادق الكفاح لتوظفه ضد الآخر وجعل الصراع داخليا والكفاح سلبيا، والتدين إرهابيا، والتوحيد وهابيا، والإصلاح سياسيا ، أو حزبيا تعصبيا.

وقد نجحوا في هذا المسلك عمليا بعد أن هيئوا له إعلاميا وسياسيا ووفروا الأسباب الداعية لتجمع شذاذ الفكر من الشباب المسلم الذين يكفرون الكافر والمسلم والحاكم والشعوب على حد سواء في منهجية لا تعتمد على كتاب ولا سنة ولا عقل يعقل الأمور ومجرياتها التاريخية فظهرت للمسلمين القاعدة المتهمة بكل الويلات والاعتداءات وبناتها من الدواعش المتخصصة في ارتكاب كل فواحش القتل والتدمير لبلاد أهل السنة خاصة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها كما قال الإمام مالك رحمه الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.