شعار قسم مدونات

الزواج المدبَّر وبنت أخت الجارة

blogs- الزواج

بعد أن تفشل جميع محاولات التنقيب عن المعدن الخام الذي طال البحث عنه، يبدأ المغامر في ميدان الزواج بتصديق أنه "يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر"؛ فيتأكد له المعنى بوضوح ودقة حين يسمع حديث الجارة عن بنت أختها التي لم يزرها قطار الزواج بعد، وبكل لفظة تصف بها الجارة البنت، يكون النهر قد أهدى صاحبنا كنزا ثمينا يرسمه الخيال أكثر مما تصفه الألسن.

واقع الأمر أن الخيال لن يهدأ بعد سماعه لمكسب كهذا، بل سيتجاوز كل الماضي ليبرم اتفاقا مع العاطفة، وستكون الجارة حينها هي الملاذ الوحيد حين تفقِد الموجة ترددها فتشوَش الصورة، أو حين يجف ماء الخيال فتهرَع العاطفة طلبا للمعونة، وبالتالي لن يكون أمام الجارة إلا إتقان دور "سفيرة النوايا الحسنة"، تلك التي لا تتقن سوى سرد نقاط القوة دون إظهار العيوب الخفية، فيكون ذلك بمثابة خطأ طبي قاتل في مستشفى العلاقات. 

وبالتأمل في حال الجارة، سنجد أن خيالها هو الآخر لا يفتأ يعرض لها صورة العروسين الجميلين وهما يتوددان لبعضهما البعض في يوم فرحهما، وهذه وحدها تكفي لأن تشعل نار الحماس لدى الجارة، فلن يرتاح العمل بعدها حتى تتعب الإرادة، ولن تستسلم "السفيرة" حتى يرفع اليقين يداه طالبا للأمان.
 

إن الحديث عن الزواج المدبَّر يمثل المجهول الأكبر في معادلات الطرف الآخر، ويشكل جسرا متداعيا فوق نهر مخيف يدعى المستقبل، ذاك الذي لا يمكن التكهن به حتى نستطيع إيقافه أو ضبط سرعته

عند هذا الحد، تبدأ الخطوات الدبلوماسية والتحركات شبه الرسمية، فيتناهى لمسامع البنت أن شابا يتعهدها في خياله، يصونها بعاطفته ويرعاها بأحلامه، ثم تكون هنا وظيفة "السفيرة" إثبات المودة بينهما بكثير من الكلام وقليل من الصدق، إذ لا تخلو دعاية من كذب مدسوس في ثنايا الخطاب، فمن المشاع أن التسويق لأي (منتج) يحتاج لنوع من الكذب الذي تُصدِّقه العاطفة قبل أن تلتقطه الحواس، ومن هذه الثغرة تنبُتُ الصدمة شيئا فشيئا حتى تُكتَشف في وقت متأخر من اليقظة، ليقلب الخيال الطاولة على العاطفة، ويصير الحلم مجرد شائعة.

لست هنا بصدد هدم فكرة الزواج المدبَّر، ولكن مجرد زرع واسطة تحُول بينك وبين (شريك الحياة) هي بمثابة معول هدم قد بدأ عمله قبل أن تباشر البناء أصلا، وكأن الشاعر بشار بن برد يرى المشهد أمامه ثم يتساءل في ذهول: متى يبلغُ البنيانُ يوماً تمامه / إذا كنت تبنيه وغيرُك يهدم. 

إنني وبكل أمانة لا أكاد أتخيلني بجانب عروس تقاذفتها أحاديث الناس ووصايا الجارات نحو ساحلي، بل ليس عندي شك أن الأمر سيكون مليئا بالخَلط والخَبط، وستنتهي القصة (في غالب الأحيان) إلى زواج مكتظ بالخطوات المرتعشة والأصوات الباهتة والقرارات المرتجلة والنظرات المفرغة من المعنى، وهذا لا يعني أن كل مَن سلك هذا الطريق فهو آثم، بل جُلُّ أجدادنا مروا مِن هنا وأثبتوا العكس تماما، ولكن يجب أيضا أن لا ننسى بأن ممارسات الآباء والأجداد ليست دائما ماءً صافيا يعانق نهر الحكمة، والحكمة نفسها تقول: "ليس كل قديمٍ نافع".

وهنا تكمن الهشاشة العجيبة لمفهوم الزواج، فالأمر يزداد تعقيدا حين تصل التحركات والزيارات واللقاءات إلى نفق مظلم ومسدود، فيتحول الزواج عندها من مشروع مقدس أساسه المودة والرحمة إلى تجارة بائرة قِوامها العبث واللامسؤولية، وهذا منزلق آخر يدفع كلا الطرفين لقبول فكرة العلاقات العابرة كونها تنمي مهارة البحث وتصقل موهبة الاختيار، وأنها في كل مرة تتيح للمرء التوقف على تجربة أكثر متعة وروعة من التي يستمتع بها حاليا، حتى وإن لم تكن ممتعة بالقدر الذي يريد؛ فالمستقبل كفيل بإثبات ذلك.

إلا أن هذا وَهْمٌ آخر يقذف داخل صندوق الزواج المدبَّر، فالعلاقات التي تبدأ ثم تنتهي سريعا باسم الزواج إنما هي مجموعة أفعال مدَبَّرة ملصقٌ على واجهتها "مهارة الإنهاء السريع"، فيصير بعدها الطرف الآخر سلعة قابلة للتجريب ومفتوحة على جميع إغراءات السوق، ابتداء من الاستعمال السريع وانتهاءً عند ضمان استرداد النقود المدفوعة.

إن الحديث عن الزواج المدبَّر يمثل المجهول الأكبر في معادلات الطرف الآخر، ويشكل جسرا متداعيا فوق نهر مخيف يدعى المستقبل، ذاك الذي لا يمكن التكهن به حتى نستطيع إيقافه أو ضبط سرعته. صحيح أنه لا يختلف اثنان على أن الزواج هو الانفتاح على القدر في أسمى تجلياته، ولكننا سنختلف حتما حينما يصبح الجهد مفارِقا لليقين معانِقا للظن والتخمين.
 

إنَّ فَشَلَ الزواج المدبر هو في الغالب فشل في التواصل، ومكمن الفشل هنا متعلق بمحاولات الإرضاء المتبادل مَيلا للحفاظ على العلاقة الجيدة، وخوفا من فقدان مودة السفير الذي يربط العلاقة بين الطرفين

إن ماهية الزواج المدبَّر تظهر جليا في مدى سعي المرء للحصول على الزهرة من دون أشواك، ودائما ما يقابل الأمر (في النهاية) بخيبة أمل متجذرة في الروح، ليس لأن الزهرة سيئة وإنما اليد التي قطفتها فارغة من الثبات، وهكذا عوض أن تكون النهاية مرصعة بالبهجة والفرحة، سيتحول الجهد إلى مشهد يتيم ومؤلم، ولن يصفق لهذه الخاتمة إلا اثنان؛ العاطفة والشك.

خلاصة القول؛ إن ما يعيب الزواج المدبَّر يكمن في قيامه على الاختيار المفرغ من الجهد، والمجهول الممزوج بالشك، وكثرة الجسور التي لا تغطي المسافة بين النهر والبحر، ومع مرور الوقت ينتج عن هذا التباعد في المسافة ضباب كثيف لا ينقشع بمجرد التعلق الساذج، ولا تقضي عليه أشعة الوهم الواهية، بل سيزداد كثافة مع كل خطوة تائهة، وسيطول بقاؤه حين لا يعلم المرء ما سيراه عندما يتبدد الضباب.

إنَّ فَشَلَ الزواج المدبر هو في الغالب فشل في التواصل، ومكمن الفشل هنا متعلق بمحاولات الإرضاء المتبادل مَيلا للحفاظ على العلاقة الجيدة، وخوفا من فقدان مودة السفير الذي يربط العلاقة بين الطرفين، أما المواضيع ذات الأهمية فلا تُثار البتة، وهنا يبدأ المغامر في ميدان الزواج بتمحيص فرضية "النهر والبحر" ليخلص في النهاية إلى أنَّ الجارة وإن كانت حسنة النوايا لطيفة الكلام، جميلة الوصف هادئة الطبع، فليس بالضرورة أن تكون بنت أختها كذلك، لأن القاعدة تثبت أن "الكلام يظل جامدا حتى تحركه رياح الواقع".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.