شعار قسم مدونات

فيلم The Walk: الإنسان الأخير ودورة الحضارة

blogs - فيلم the walk

غالبا ما يلجأ الفلاسفة والمفكرون في توضيح أفكارهم إلى رموز مبسطة ومقابلات لها سمة المفارقة مختصرين بهذا تأملاتهم في تفصيلاتها وتعقيداتها، فتصبح هذه الرموز علامات مميزة لنظراتهم، فنرى بيركلي يدلل على فلسفته بمثال التفاحة، وبرتراند راسل بمثال الإبريق الهائم في الفضاء، ونرى نيتشه يختار أن تتشخص أفكاره لتتمثل بحكيم الشرق زرادشت خارجا من عزلته داعيا لتعاليمه.

ولكل من تلك الرموز معان مكثفة تتبين متى تناولها المتأمل بنظره وقلّبها على وجوهها باحثا في تعبيرها عما تمثله من معان، ولا يخلو أن تكون تلك الرموز أمثولات مثل كهف أفلاطون، أو قصصا رمزية قصيرة مثل التي كان يقصها ابن المقفع ويعيد حكايتها من بعده في صوفية مفعمة وأحوال عجيبة جلال الدين الرومي. وقوة هذه الرموز أنها تربط الحس بالمعنى وتشحن الصور به شحنا تاركة للمتلقي متى ربطت له الصورة بالمعنى مهمة استدعاء معانيها وتأملها.

هذا ما حاولت أن أقنع به رفيقي إلى دار العرض لمشاهدة فيلم The Walk وهو يحاول أن يفهم الطريقة التي بها أشاهده وكيف أخرج منه بمعان لا صلة لها -للوهلة الأولى – به، كان رفيقي يتمايل برأسه للأمام والخلف وهو يشاهد الممثل -جوردون ليفيت- يتمايل على حبل مشدود بين برجي التجارة العالميين، ويصيح متعجبا بصياح المشاهدين متى تحركت المؤثرات حركتها لتعطينا وهم السقوط أو وهم الارتفاع. كان هذا الشعور بالإثارة هو ما استحق عنده ثمن التذكرة، واستوجب لذلك أن ينفقه بسرور ودون تحفظ، هذه الحجة الاقتصادية ليست مزحة، بل هي حالة عامة تمتد منه كمشاهد بين عشرات المشاهدين في غرفة العرض إلى آلاف المستهلكين في المركز التجاري الذي نحن فيه، إلى المليارات الذين تشملهم منظومة التفكير الاقتصادي هذه.

وإن اخترت أنا أن أفكر كمستهلك مثالي يحاول أن يلبس حجته لباس التفلسف، فإن ما جعل عندي ثمن التذكرة مجديا أنها ثمن مشاهدة رمز من رموز نيتشه الشهيرة والذي قدمه في بداية رحلة زرادشت، والرمز هو صورة ساخرة لسقوط بهلوان من على حبل واحتضاره بين يدي زارا الذي خرج من عزلته ليبشر بالإنسان الأعلى، لاحظ نيتشه عن كثب التحول الكبير الذي أتت به الثورتان الفرنسية والصناعية على أوروبا، تحول لم تكن نتيجته رخاء اقتصاديا وقوة سياسية فقط، بل تحولا اجتماعيا كاملا، انتقلت به رقعة جغرافية كبيرة من القرون الوسطى إلى العصر الحديث، والأهم من ذلك والأخطر أنها كانت عند نيتشه تحولا في الإنسان نفسه.
 

تحتل شخصية الارستقراطي النبيل في القرون الوسطى مكانة ومركزية مهمة وتعد عاملا مهما في فهم حركة التاريخ وجريانه، وقد عزت إليها الأطروحات السياسية دورا محوريا في نظرية الدورات الحضارية التي كانت هي النموذج التفسيري المهيمن وقتها

كان على نيتشه أن يبين رؤيته لهذا التحول في صورة رمزية ساخرة تعكس سخريته هو نفسه من نواتج هذا التحول على الإنسان، فالإنسان النبيل الذي تتحق مفاخره وسماته مما ينجزه من بطولات ومما يراه في أصول عائلته من أمجاد متصلة في سلسلة الآباء والأجداد، هذا النبيل قد قضت عليه الثورة الفرنسية قضاء مبرما.

تحتل شخصية الارستقراطي النبيل في القرون الوسطى مكانة ومركزية مهمة وتعد عاملا مهما في فهم حركة التاريخ وجريانه، وقد عزت إليها الأطروحات السياسية دورا محوريا في نظرية الدورات الحضارية التي كانت هي النموذج التفسيري المهيمن وقتها، ويحدثنا ابن خلدون في مقدمته عن طبيعة هذا الدور بأوفى بيان وأحكمه، فلا يتصور جريان التاريخ بغير وجود عصبيات تتداولها من عصبيات أخرى، فإن كان التاريخ لا يتصور بدون وجود هذه الطبقة، لزم أن يكون وجودها إذا طبيعيا في الإنسان، ولهذا يربط ابن خلدون ببراعة بين مفهوم الحسب الذي هو تتابع الآباء في سلسلة النسب للفرد بالعصبية كمجموعة، وهو بهذا يردها إلى نزعة التكاثر والتناسل التي هي سمة طبيعية، فالنبيل أو صاحب العصبية وما في طبيعته من طلب المجد والسؤدد وإيثاره التضحية بنفسه وماله لأجلها ناتج طبيعي من تتابع النبلاء طلاب المجد في سلسلة من الآباء والأجداد في النسب، وهذا التتابع هو ما يجعل النبيل أو صاحب العصبية يعلو ويتفوق على من لم تتحصل له تلك السلسلة بقوتها ووضوحها.

وغاية النبيل كما يراه نيتشه هي تعزيز الأمجاد وطلبها وحراستها، وتطويع رغباته كلها لهذه الرغبة السائدة، فلا يبخل لتحقيقها بمال ولا بنفس ولا بجهد حتى يحصلها ويصونها، كان هذا هو الإنسان الأعلى الذي نادى به زارا جموع المتفرجين على البهلوان. 

فهذا الإنسان لم يعد بعد التحول ممكنا، فإلى جانب أن الثورة الفرنسية قضت قضاء نهائيا على طبقة النبلاء لتحل محلها مساواة تامة في المنازل والفرص بين الأقوياء والضعفاء، بين النبلاء والدهماء (إلغاء مفهوم الحسب)، فإن الرأسمالية كما قرر ألبرت هيرشمان في أطروحته الفريدة، قد بدأت تبديلا معمقا في نوازع الإنسان المغروزة فيه، فقد تنحت الرغبة في المجد من كونها هي الغاية العليا، ليحل محلها الجشع وطلب المنفعة، فقد طوعت الرأسمالية نوازع المجد لمطالب المنفعة. والحجة التي ساقها كثير من الفلاسفة لهذا التبديل بدءا من مونتسكيو ومرورا بجون لوك وآدم سميث، هي كبح نوازع المجد التي تديم النزاعات والحروب، واستبدالها بمطالب المصلحة المسالمة والأليفة. 

على ان هذا التحول هو تغيير في الأولويات فقط وهو لا يلغي مع ذلك نزعة الإنسان للمجد والسيادة، فهي موجودة لازالت وان لم تعد عند "الإنسان الأخير" غاية الغايات، ويتطلب هذا -بالطبع- البحث عن صيغ لتحصيل المجد لا تتعارض مع مطالب المنفعة ولا تلغيها. صورة محسنة مروضة لإنسان العصور الوسطى صاحب السيف وفارس المعارك.

يعبر "جوردن بلفورد" وهو يرقص مع موظفي شركته رقصة الذئاب المفترسة، ويلقي خطبه الحماسية كأنه في أرض المعركة في فيلم "ذئب وول ستريت" عن هذه الصورة تعبيرا قويا، فطموحات بلفورد لا تعدو كونها تحقيق أكبر قدر من الثراء يطفئ به نهمه الذئبي، وصورة المطاردة القانونية له ولشركائه الجشعين خالية من الدماء والقتلى، وأثرها لا يحدث دمارا عاما وتحولا تاريخيا. 

لهذا يتمثل نيتشه على لسان زارا بعين الشفقة ذلك البهلوان الصريع، فهو ما بقي من صورة النبيل طالب المجد في عصر التحول، هذه الصورة الرمزية تمثلت على الحقيقة تمثلا مكثفا في محاولة لاعب الأكروبات الفرنسي "فيليب بيتيت" المشي على حبل مشدود بين برجي التجارة العالميين سنة 1974، وهي الحادثة التي مشى فيها ثماني مرات بين البرجين ذهابا وإيابا وحيى الجماهير المشدوهة لهذا الموقف من على الحبل ببراعة، معبرا عن رغبة عارمة بتحقيق المجد لكن صورة هذا المجد هنا صورة مروضة أليفة غير مدمرة. فقد اعتقل "بيتيت" بعد هذه الحادثة وأطلق سراحه في نفس اليوم بدعوى أنه لم يلحق أذى بأي أحد.

هذا ما مثله لي هذا الفيلم الذي يروي قصة هذه الحادثة بعد خروجي من دار العرض، وقد حل محل الإثارة الناشئة عن وهم السقوط حيرة غذاها سؤال طرق ذهن نيتشه من قبل سؤال مثله، ما الفرق بين هذا الذي مشى على حبل بين برجي التجارة واولئك الذين اخترقوهما بطائرات ودمروهما.!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.