شعار قسم مدونات

سأدفن رأسي تحت المخدة

blogs- وسادة
كالعادة.. دخلت غرفتي، أغلقت الباب وأطفأت الأضواء عدا ضوء خافت ينير لي صفحتي البيضاء؛ لأعبر فيها.. حسنًا ثم ماذا؟ لا شيء.. أنتهي من تسويدها ثم ألقيها في القمامة، أو بالأحرى أمزقها ثم أحرقها حتى تسمو عند الذي يجيب المضطر إذا دعاه، وبعد ذلك أضع ما تبقى من آثارها في القمامة.


سرحت برهة، أفكر عمّ سأكتب هذه المرة، أنا متحيِّر فعلًا، فقد قرأت خلال الأسبوعين الماضيين كتبًا عن الخيانات التي قام بها كثير من قادة العرب الراحلين وممن خلَفَهم الآن، قرأت عن الثورة الفرنسية، عن الكذب الأميركي والروسي، قرأت عن سقوط الدولة العثمانية وعن احتلال بغداد.

لا يمكنني التحكم بقلمي الآن، أخشى أن أبدأ الكتابة عن فتح طارق بن زياد للأندلس فأجد نفسي أتغلغل بالكتابة عن سقوطها على يد القشتاليين والأرغون، أو أن أكتب عن فتح صلاح الدين للقدس فيقودني قلمي للحديث عن توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام التي وقعها أنور السادات، أو اتفاقية أوسلو التي وقعتها منظمة التحرير الفلسطينية لتحرير إسرائيل من خجل قيام دولتهم في فلسطين.


سأدفن رأسي حتى أسافر بالزمن إلى الخلف، وأعود إلى معلمة اللغة العربية لأوبخها، لأنها أجبرتني على حفظ قصيدة "بلاد العرب أوطاني" وأكمل الطريق إلى قائد أمتنا محمد بن عبد الله، وأشكو له أمته كما لم يعهدها، وأنهم لم يعتصموا بحبل الله وتفرقوا، ولم يتداعوا لبعضهم بالسهر والحمى

تبًا.. لن أكتب، أريد أن أدفن رأسي تحت المخدة وأضغط بكلتا يدي لأتحرر من وساوسي وأُعزل نفسي تمامًا عن الواقع وعن الأفكار البئيسة التي ستقتلني.


صرت أشعر بالاتجاهات التي تأتي منها هذه الأفكار فأقوم بشد المخدة على ذلك الاتجاه، لأجد أنها بدأت تتسرب من اتجاه آخر وتصلني من بين تعرجات الوسادة، 
لو كان لديّ أربعة أيدٍ لتمكنت من إيقافها.


إذًا سأستسلم للواقع وسأواصل التفكير وأنا مدفون الرأس؛ حتى أستمر في سماع ذلك الصوت الذي يشعرني بأني أغوص في أعماق البحار، وأيضًا أتوقع أن ذلك أفضل وآمن؛ حتى إذا تمكنوا من الوصول إلى دماغي عن بعد وقراءة ما بداخله، فلا أستبعد أن يطلقوا عليّ غاز السارين، ولكن مخدتي ستحميني من وصوله لأنفي الكبير، فأنا أثق بهذه المخدة؛ لأنها ذاتها التي كان ينام عليها جدي منذ أكثر من خمسين عامًا، وكان دائم الحديث عنها وعن نعومتها ورقتها حين ينام عليها على عكس قوتها وصلابتها مع الغرباء، وكان دائم القول: لو أن حكامنا.. أقصد الحكام العرب، مثل هذه المخدة لما استطاع جبروت الغرب والعالم المساس بنا.. رحمه الله.


سأدفن رأسي تحت المخدة حتى لا يصلني صراخ الأطفال والنساء في الجوار يقتّلون ويعذبون، لأنهم… لا أدري ما السبب.. 
سأدفن رأسي حتى أبكي كلما أذكر صورة ذلك الطفل السوري الغريق "إيلان"، وأبكي على الطفل عمران الذي أبكى الجميع دون أن يذرف دمعة واحدة.. أبكي دون أن يراني أحد، تمامًا كما بكى محمود عباس على شمعون بيريز.


سأدفن رأسي حتى إذا أطلق أحد الصهاينة أو الشبيحة أو البلطجية النار عليّ لا أستحقر روحي لحظة بلوغها الحلقوم بالنظر إلى من ظنّ نفسه غلبني وأرداني.. لا أريد أن أراه.. 
سأدفن رأسي حتى أسافر بطائرتي الخاصة إلى أعلى قمة جبل أو ناطحة سحاب وأصرخ بأعلى صوتي بوحًا بما في داخلي، وأختفي من مكاني وأظهر في آخر.. نعم.. كأفلام الكارتون.


سأدفن رأسي حتى أمسك سكينتي التي سنّتها لي أمي منذ أن كنت صغيرًا لتزرع بي روح الجهاد والاستشهاد ومقاتلة بني صهيون. ولكن عذرًا أمي؛ لدي من أقتله بهذه السكينة من أبناء جلدتي، سأقتل كل من قتّل واضطهد وعذّب واغتصب، وكل من وقع اتفاقية عار، حتى وإن ماتوا فسأنتشلهم من قبورهم وألقي بهم في وسط ضباع جياع، كما كانوا جياعا في حياتهم يبتغون عرَضِ الحياة الدنيا وزينتها.


سأدفن رأسي حتى أسافر بالزمن إلى الخلف وأعود إلى معلمة اللغة العربية أوبخها لأنها أجبرتني على حفظ قصيدة "بلاد العرب أوطاني". وأكمل الطريق إلى قائد أمتنا محمد بن عبد الله، وأشكو له أمته كما لم يعهدها وأنهم لم يعتصموا بحبل الله وتفرقوا ولم يتداعوا لبعضهم بالسهر والحمى بل تداعوا على بعضهم بالسيف والنار.


سأدفن رأسي تحت المخدة لأحرر القدس وحدي، أو بجانب أبي حتى يربط على جأشي.. حتى لو لم نحررها فإننا سنستشهد كما استشهد الدرة، وبعدها أمسك كتابي بيميني وأتنقل بين من استبدوا وطغوا وقتلوا وأصرخ بأعلى صوتي "هاؤم اقرؤوا كتابيه.. هاؤم اقرؤوا كتابيه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.