شعار قسم مدونات

"الإله" عند العلمانيين

blogs - علمانية

لا ريب في أن طرح سؤال على هذه الشاكلة: بم يؤمن العلماني؟ قد يكون بديهياً، ولكن من المؤكد أكثر أن الإجابة عليه ليس بالأمر الهيّن. حيث يصعب تحديد تلك القضايا الغيبية التي يؤمن بها العلماني، لأنه ببساطة لا يصرح بها، والسبب مردُّه إلى أن هذه القضايا أولاً خارج اختصاصه، وثانياً أن الدين قضية إيمانية ومسألة شخصية بين الإنسان وخالقه، وثالثاً وهو الأهم، أن الأولى لديه هو إصلاح الأرض بدل الحديث عن السماء. فالإيمان العلماني بالدين هو موقف أكثر ما يميزه بأنه "أبستيمي" في نسق يبدأ من أن الدين لله والوطن للجميع، في سعي صاحب هذا الإيمان لتشييد "يوتوبيا" قوامها الحياد العقيدي والأخلاقي لنظام الدولة.

 

ولكن بوسعي سريعاً تحديد ملامح "الإيمان العلماني"، وأنا هنا لا أتحدث عن العلمانية الانفصالية أو الراديكالية الصلبة؛ أي تلك التي لها توجه أيديولوجي معادٍ للدين، بل أتحدث تحديداً عن العلمانية المؤمنة، وتحديداً أكثر علمانية العقل "البينذاتي"، والتي تسمى أحياناً بالعلمانية التواصلية أو اللينة. حيث يدعو صاحبها لقيام "انتلجنسيا" إيمانية صحيحة، وهي كذلك من خلال انتظامها في دائرة الإيمان بالله ووحدانيته. وهي صحيحة أيضاً بانتظامها في الفكر العلمي والعالمي المعاصر، وبقصد توظيف هذا الأسلوب العلمي في التفكير، وأدواته المنهجية في نقد وتفكيك العقلية العربية وإعادة إنتاجها من جديد، وقيام حفريات "أبستمولوجية" للقضاء على عناصر الخرافة واللاوعي والتطرف، وإبراز قيم التسامح والعدالة، والتأسيس لفلسفة "شريعة العقل". فمن هذا الجانب يمكن النظر إلى هذا النوع من الإيمان كحركة إصلاح ديني قوامها ذلك الفصل بين الدين والدولة، ومن ثمّ الحياد العقيدي التام لنظام الدولة السياسي.

 

إن العلماني يدرك أكثر من غيره مدى القلق "الميتافيزيقي" الناتج عن هذا الإيمان، والذي سيكون مرفوضاً لدى أصحاب الفهوم التقليدية للإسلام، وبأنه "دين ودولة"، بل وحتى لدى العامة من المسلمين

لا أتمنى أن يخفى على القارئ هنا أنه يواجه موقفين متعارضين في الخطابات الدينية والعلمانية الراهنة، في النظر أو التعامل مع لفظ الجلالة (الله) بوصفة العلّة أو الخالق للوجود، فالخطاب الأول يرى أن الله موجود خالق ومدبّر وفاعل حقيقي للكون بعامة، وللفعل البشري بخاصة، فأصحاب هذا الموقف استطاعوا التوفيق بخطابهم بين مذهب العلو "الترانستندالي" ومذهب الحلول، إذ قالوا بإله مفارق في ماهيته لهذا الوجود، لكنه ذو حضور، وفاعلية قانونية (الشريعة) في هذا الوجود، على اعتبار أن الحاكمية لله وحده، وعلى الأغلب أن أصحاب هذا الموقف هم من دعاة أيديولوجيا الوحي، والتمسك بظاهر النص، والشعارات الأصولية.

 

أمّا أصحاب الموقف الثاني لا يعتقدون أن الله محرّك دمى من خلال التقيّد الحرفي لأوامر لا ينظرون إليها إلا في سياقها التاريخي، ولذلك فأصحاب هذا الموقف يقومون بتصحيح العلاقة العمودية من خلال النظر إلى الله بوصفه خالقاً مفارقاً لكونٍ آلي يسير بقوانين طبيعية من بنيته الطبيعية، فالحديث لديهم عن عالمين متمايزين وفق نظرة علمية، يمكّن من قيام "الإنسان الحر"، ممّا يفسح المجال للإبداع البشري الحر في الشأن الدنيوي..

 

ويتبع ذلك ضرورة سن قوانين وضعية لتنظيم المجتمع المدني في الدولة المدنية، وعلى الأغلب أن أصحاب هذا الموقف من العلمانيين اللاراديكاليين، أو أصحاب الإيمان العلماني، والذين إذا ما تحدثوا عن بنية الدولة استعملوا مفهوم (الله) ضمن علامتي حصر، كما لو أنهم بعملهم هذا يستطيعون الاعتراف بوجود (الله) مع إنكار ما يمكن أن يتضمن هذا الاعتراف من دلالات سياسية، أو اجتماعية داخل الدولة أو خارجها، وذلك انطلاقاً من اعتبار أن الإنسان كائن عاقل قائم بذاته، أو قادر على أن يكون كذلك.

 

لسنا هنا إزاء "مكيافيلية" يمثلها صاحب هذا النوع من الإيمان، بحيث يتبنى الإيمان بالدين ليسقطه فيما بعد من حساباته، بل الأمر لا ينطوي البتة على أي لعبة لاأخلاقية أو خداع سياسي ديني. إن العلماني يدرك أكثر من غيره مدى القلق "الميتافيزيقي" الناتج عن هذا الإيمان، والذي سيكون مرفوضاً لدى أصحاب الفهوم التقليدية للإسلام، وبأنه "دين ودولة"، بل وحتى لدى العامة من المسلمين، وذلك بفضل هيمنة هذا الخطاب الذي أهمل العقل وغيّبه، وأحال الإسلام إلى دين فتاوى له أبعاده الروحية والعقائدية والاجتماعية والعلمية والسياسية والاقتصادية، وهو أمر جعل من السهولة بمكان بناء عقيدة في وعي ولاوعي المسلم "بعالمية الإسلام وشموليته".. وبفهم فسيفسائي ذري عن الإسلام..

 

الإيمان العلماني هو نظرة موجهة لقيام إسلام حضاري تاريخي، وسلام توافقي بين الدين والدنيا، وهو يُعنى بالأمور الحياتية، بقدر عنايته بالأمور الروحانية دون أن يتقاطعا فيما بينهما، وذلك من خلال تقديم سلطة العقل على النقل.

وبالتالي تكون "دولة الخلافة" جزءاً أساسياً من الدين الإسلامي، لكي تتموضع "الشريعة الإسلامية" داخل دولة كهذه، رغم أن المرجعية الإسلامية والمتمثلة في النص القرآني تخلو من نظام سياسي بالمعنى الدقيق للدولة الحديثة، بل إن وضوح الإسلام في أركانه الخمسة التي يقوم عليها لم تنص على ضرورة قيام دولة "الثيوقراط"، أو دولة الخلافة بالمعنى الديني، فالعلماني المؤمن يعمل على قيام سلام بين الوحي والواقع بإيمان تاريخي للأنا التاريخية، وإبراز دور الإنسان كذات إنمائية إبداعية لا اتباعية وحسب، إنه سلام قوامه تحقيق القيم الإنسانية العليا كالحرية والمساواة، والأهم العدل "وحيثما وجد العدل فثمّ شرع الله"..

 

وليس من الضروري أن يكون هذا الشرع لا يتمثل إلا في الدولة الدينية. وهكذا يصبح الإيمان العلماني هو إيمان عقلي واقعي يعيد ترتيب أولويات الإنسان، ويضعه ككائن تاريخي يعيش لحظة تاريخية حية وفي السياق، إنه بعبارة أخرى، دين عقلي للعقل الذي يعقل الواقع بتعقيل الوجود الإنساني، وإذاً فهذا الإيمان هو نظرة موجهة لقيام إسلام حضاري تاريخي، وسلام توافقي بين الدين والدنيا، وأخيراً إنه إيمان يُعنى بالأمور الحياتية، على الأقل، بقدر عنايته بالأمور الروحانية دون أن يتقاطعا فيما بينهما، وذلك من خلال تقديم سلطة العقل على النقل.

 

صفوة القول، إن الإيمان العلماني يمكن تسميته بإيمان الأحرار، لأن صاحبه قد امتلك من القدرة على استخدام عقله بنفسه، وباستقلالية عن العقل الموروث أو الجمعي، وهي عملية تتطلب نقد محتوى هذا العقل الموروث، ولأنه ليس ثمّة تفاوت بين الفكر والعقل، فهذا يعني وضع العقل نفسه في قفص الاتهام، وإخضاعه هو وجميع مكوناته للمساءلة النقدية، فهو عقل ينتمي لثقافة ما أنتجته، ويعمل هو بدوره على إعادة إنتاجها ناسياً أو متناسياً اختلاف الشروط التاريخية والواقعية التي أنتجت ثقافة ما قبل أربعة عشر قرناً، وبأنها شروط تختلف البتة عن شروط تاريخ وواقع وتحديات يعيشها مسلم اليوم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.