شعار قسم مدونات

إهانة الإرادة الشّعبية في زمن "العَـبَـثُـقْراطية"!

blogs - سعد الدين العثماني

بعد طول انتظار وبفعل فاعل، انحلّت عُقدة "البلوكاج الحكومي" الذي دام قرابة ستة أشهر، وتمخّضَ جبل المشاورات السياسية في المغرب ليَلِدَ فأراً مُسِخَ حكومةً لم يفهمْ جلُّ المغاربة بعدُ لماذا لم تأتِ تشكيلة الأحزاب المشارِكة فيها مُتناسِبةً مع ما أفرزه صندوق تشريعيّات السابع من أكتوبر 2016 !

تسارعت وتيرة تشكيل ثاني حكومة مغربية في ظل دستور 2011، بعد البلاغ الملكي القاضي بإعفاء "زعيم البيجيديّين" عبد الإله بن كيران ونقْل مهمة تكليف تشكيل الحكومة إلى "شخصية أخرى" من حزب العدالة والتنمية لم تكن سوى الدكتور سعد الدين العثماني (رئيس المجلس الوطني للحزب)، لتتسارعَ معها أفكاري ويَزدحمَ بعدَها ذهني بالعديد من الصور والكلمات محاولاً إيجاد توصيفٍ مناسب لما آلَ إليه المشهد السياسي بالمغرب؛ فلم أجد تعبيراً أبلغَ لنعتِ عَبثيّة المشهد ومأساويّته سوى لفظ "إهانة الإرادة الشّعبية للمغاربة"!

ولعلّ من أبرز الأفكار التي راودتني بقوة حينها صفحاتٌ من كتاب "الإهانة في عهد الميغا إمبريالية"، لمؤلِّفه الراحل الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله -والذي اشتُهر بتخصُّصِه في علم المُستقبليات-، حيث استوقفتْني توطئة الكتاب الذي صدرتْ طبعتُه الخامسة سنة 2007، والتي يتحدّث فيها المؤلِّف، بإسهاب، عن تعريف الإهانة، مبرزاً أن فصول الكتاب تصبّ أساساً في ما يمكن تلخيصه بـ"الذّل"، الذي يعتبرُه المنجرة "شرّاً قديماً يعود بقوة ليبسُط هيمنته على العالم".

تساءلتُ مليّاً مع نفسي عن ما يمكن أنْ يربط مضامين كتاب د. المنجرة بما حدَثَ أخيراً في مسار تشكيل الحكومة، خاصة بعد قبول العثماني بشرط إدخال حزب الاتحاد الاشتراكي في الائتلاف الحكومي ضدّاً على إرادة مُخرجات صناديق الاقتراع بعد أن منحَ المغاربة لحزب "الوردة" بقيادة إدريس لشكر 20 مقعداً برلمانياً فقط، فلم أهْتدِ سوى لخيطٍ رفيع ناظِمٍ للأمْريْن جامعٍ بينهُما؛ ألا وهو مصطلح "الإهانة". هذه الأخيرة التي تشكّل قُطب الرَّحى في أغلب كتابات الدكتور المنجرة، إلى درجة إقراره بأنّ "المَهانة قد غَدَتْ شكلًا للحكم ونمطًا لتدبير المجتمعات وطنياً وعالمياً". ("الإهانة في عهد الميغا إمبريالية"، منشورات المركز الثقافي العربي، ط5، 2007، ص 7).

إنّ إعفاء ابن كيران بعد عدم قبوله بشروط أخنوش واعتباره لها أنها "تعجيزية"، وما اسْتَتْبَعهُ من تكليف العثماني بتشكيل الحكومة لتعدُّ أكبر إهانة وإذلال تعرَّض له الشعب المغربي

وفي توطئة الكتاب نفسِه، نجد المنجرة يَسبِرُ أغوار مفهوم الإهانة؛ إذ يشدّد على أنّ "الإهانة تنبُع من إرادة واعية في التعدّي على كرامة الآخرين، وليس فقط من الهيمنة"، مضيفًا في السياق نفسه أنها "أحدُ أكثر الأمور انتشاراً اليوم عالمياً بفضل مستخدِميها ومنْ يحافظون عليها. وهو الأمر الذي يثير الأقل فالأقل من السُّخط من جانب الشعوب المُهَانة نفسِها".

وقبل أن يخلُص عالم المستقبليات المغربي إلى خلاصة مفادها أن "إحدى قواعد الذُّلّـقْراطية تتمثّل في أننا كلما تماديْنا في خرق مبادئ الديمقراطية كلما سَمحنا لأنفُسنا بتقديم دروس في السلوك الحسَن للآخرين"، يشرحُ المنجرة كيف أن الجماهير الشعبية تقبل بممارسة ذُلّ الأنظمة عليها، فضلاً عن "ذلّ ذاتي يتمثل في الامتناع عن الفعل"، فجماهير الشعب تعاني بذلك ذُلاًّ مزدوَجاً مُزمناً.

وبالعودة إلى مسار مشاورات العثماني لتشكيل حكومته، يمكن القول إن حزب "الأحرار" بزعامة أخنوش واشتراطه لمشاركة الاتحاديّين مُصِرّين بذلك على تعطيل ميلاد الحكومة برئاسة بنكيران لمدة فاقت خمسة أشهر، قد سنّ منهجية جديدة في العمل السياسي بالمغرب يمكن تسميتُها بـ"المنهجية العبَثُقْراطية"، والتي جعلته يتمادى في خرق أحد أبرز مبادئ الديمقراطية وهي احترام إرادة الناخبين المعبَّر عنها عبر صناديق الاقتراع !

إنّ إعفاء ابن كيران بعد عدم قبوله بشروط أخنوش واعتباره لها أنها "تعجيزية"، وما اسْتَتْبَعهُ من تكليف العثماني بتشكيل الحكومة وتحوُّل "مثير وسريع" في موقف الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية بقبول تشكيل الحكومة من ستة أحزاب على مقاس الشروط التي رفضها سابقاً ابن كيران، لتعدُّ أكبر إهانة وإذلال تعرَّض له الشعب المغربي، خاصة الذين ذهبوا منهم للتصويت لولاية ثانية للإسلاميّين. وهي إهانةٌ تُسايِر مباشَرة درجة فتور وخنوع الجماهير الشعبية، حسب تعبير د. المنجرة؛ "ففي مجال الذل يكمُن جانب كبير من قوة المُذلّ في كونه لا يَلقى العقاب، وأيضًا في درجة استسلام وضعف الخاضعين للذل".

في نهاية المطاف، صدَقَ البروفيسور المنجرة عندما قال إن "الذّل الأكبر هو حين لا نعود عارِفينَ لمعنى الذل".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.